ماسة الدلقموني - فقط الآن، أدركت أنني قضيت سبعة عشر عاماً أتلقى معلومات على مقاعد الدراسة. سبعة عشر عاماً من المعلومات، هي فترة تكفي لخلق عبقري في أي مجال. نظام تعليمي يهدف إلى التشتيت؛ ثلاث لغات لا أتقن تماماً أيا منها، بل قليل من هذه وأقل من تلك، وبالكاد تعرفت إلى الثالثة. وخمس مواد لم تستهوني منها إلا واحدة، وفنون لم أتقن حتى التلوين بها. فكأي خدعة، يجمّلون السنوات القليلة الأولى بالألوان، يشجعون بالكلام، ولا تلبث أن تظهر الحقيقة للعيان، إذ نرى الصفوف كلها متماثلة كالغربان، ونصبح منقادين كالأغنام، المألوف ينزل عليه رضى الرحمن، وغير ذلك ما هو إلا من عمل الشيطان. نقف في نهاية المشوار لنستلم شهادة تعترف لنا بأننا جاهزون لمواجهة ما تقدم الحياة من طوفان. نبتسم، نتصور، وتبدأ الكذبة التالية بالدوران. كل تلك السنوات على مقاعد التلقين، وأنا أحمل حقيبتي الثقيلة على كتفي الصغيرين وأتجه إلى الصف لأجلس هناك، أنتظر ذلك المعلم الذي يربطني به حبل سري أتغذى من خلاله على المعلومات التي يلقنني إياها. وعندما لا أجد ذلك المعلم، أعود إلى كتابي ومرجعي الوحيد خلال السنة الدراسية لأبحث فيه. وكنت نادراً ما أعود إلى المكتبة المدرسية للبحث المُتعمق في موضوع ما. وإن لم تخنّي ذاكرتي، فقد قمت بذلك بما لا يتعدى المرتين خلال السنوات الدراسية كاملة. تخرجت من ذاك النظام التعليمي، ومرت السنين. وسنحت لي الفرصة أن أزور بعض المدارس الحكومية في بريطانيا، وأن أتعرف على أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا التعليم، من خلال حضوري لمعرض "Bettshow" الريادي في ربط التكنولوجيا بالتعليم. ومن أين أبدأ الحديث يا ترى؟ عدت فجأة إلى مقاعد الدراسة، أنظر من خلف ذلك الدرج الصغير إلى ما آلت إليه العملية التعليمية اليوم، محاولة أن أرى الاختلاف من وجهة نظري كطالبة، وأن أعيش ولو للحظات ضمن منظور هذا الجيل الجديد للتعليم، فماذا وجدت؟ تغيير جذري في معطيات المعادلة التعليمية. فها أنا أجلس هنا، لكنني لا أرى المعلم. حاولت جاهدة أن أبحث عن المعلم الذي طالما عرفته خلال تواجدي الفعلي على مقاعد الدراسة، فلم أجده. حاولت أن أبحث عن رهبة المعلم، فلم أجدها. سرحت قليلا بأفكاري، حتى أيقظني صوت شخص بالغ عاقل، وهو يرد على تساؤلات أحد الطلبة قائلا: "غوغل إت" (Google it). أبتسم لأدرك تماماً أن عصر التلقين قد اندثر. جلست مع مجموعة من الطلبة يعملون على بحث تاريخي، لأجد ذاكرتي تعيدني لأسترجع زمناً كان فيه البحث يتطلب العودة إلى عشرات المراجع والكتب خلال أيام وأسابيع، وزيارات مستمرة للمكتبات، وتقليب مئات الصفحات باستخدام البنصر والوسطى والإبهام، وتوثيق كل هذا بالنسخ على ورق "الفولسكاب"، ثم طباعته كلمة كلمة باستخدم آلة كاتبة (أو كمبيوتر للمحظوظين). وما إن عدت إلى الواقع، حتى وجدت هذه المجموعة بدقائق معدودة تحصل على عشرات المراجع باستخدام السبابة فقط؛ و"ينسخون ويلصقون" بلحظات، ثم يتفرغون للتحليل والمناقشة والصياغة. فها هي التكنولوجيا تسحب من المعلم قيمة المعلومة التي يعرفها، وتفقد الكتاب المحمول قيمته، إذ تعوضه بآلاف المراجع التي يمكن الحصول عليها بكبسة واحدة. وتحرك المكتبات في غيوم ومواقع لتضع الكتب بين أيدي كل فرد منا على حدة، فلا انتظار وشقاء في الحصول على المعلومات. عدت لأتساءل: أين هو المعلم اليوم؟ ولأجيب عن تساؤلي، قررت كتابة إعلان التوظيف التالي: "مطلوب لوظيفة مُيسر إن كنت تؤمن بالتعليم المفتوح لا المحدود، وتملك القدرة على تيسير العملية التعليمية، وتبسيط المحتوى الأكاديمي، والقدرة على تصميم القدرات التعليمية والمناهج، وإدارة المجموعات، وتقييم المهارات التعليمية، وتقديم النصح والاستشارة، وتطوير الذات على المستوى المعرفي والتكنولوجي، فهذه الوظيفة لك". لست أكتب هذا المقال لأقارن بين محاسن ومساوئ التكنولوجيا، فهذه الوسائل التي اجتاحت بيوت بعض العائلات كالطفيليات، تتغذى وتنمو على حساب العلاقات الإنسانية، وتتعدى على خصوصية كل منها من دون إذن أو احترام، هي ذاتها التي تلم شمل عائلة كاملة مشتتة بين بلدان -ولو لدقائق- خلف شاشة صغيرة في نهاية كل يوم، فتطمئن القلوب قبل أن تغفل العيون. فكأي وسيلة أخرى، هي سلاح ذو حدين. بحكم عملي في مجال التعليم، أكتب لأنقل لكم برأيي المتواضع -الذي يحتمل الخطأ والصواب- كيف جاءت التكنولوجيا لتعيد صياغة الوصف الوظيفي لكل من الطالب والمعلم. ففي حين كان على الطالب مواكبة ما يعطيه المعلم من معلومات، أصبح على المعلم مواكبة الطالب في تطوره المعرفي وقدرته على استخدام التكنولوجيا في عملية التعلّم. والسؤال هنا: هل يستطيع المعلم مواكبة التكنولوجيا التي يفهمها ويتقنها الطالب أكثر منه؟ خلال زيارتي لإحدى المدارس البريطانية (Sir Williams) التي صُنفت لسنوات عديدة ضمن فئة قلة التحصيل الأكاديمي، وحديثي مع مديرة المدرسة، تفاجأت بأن هذه المدرسة التي تحولت إلى أكاديمية -ولا بد أن أُعبّر عن احترامي لهذا القرار الذي يحتاج إلى مقال مخصص له- تمكنت خلال سنوات من وضع نفسها على لائحة أفضل المدارس الحكومية البريطانية في التحصيل الأكاديمي. وعند سؤالي لمديرة هذه المؤسسة عن العامل الأساسي الذي ساهم في هذا الإنجاز، أجابت: "أخذنا قراراً بمحاكاة هذا الجيل بلغته التي يفهمها؛ لغة التكنولوجيا. وبفضل تحوّل المدرسة إلى أكاديمية، قرّر الفريق تخصيص جزء من الميزانية لسنوات عديدة للاستثمار في برامج تعليمية باستخدام التكنولوجيا لتطوير الطلبة. وها نحن نقف هنا مذهولين من النتائج التي نراها. ببساطة، وضعنا بين ايدي الطلبة وسائل يتقنون التعامل معها أفضل منا، وأشرفنا، فماذا كانت النتيجة؟ في حالتنا هنا في هذه المدرسة، تحصيل أكاديمي لم يسبق له مثيل". ها نحن نشهد اندثار الحقائب المدرسية تدريجياً، وتغيير المتطلبات الوظيفية لكل من الطالب والمعلم جذرياً. فيا ترى، هل سيأتي اليوم الذي نشهد فيه اندثار الغرف الصفية تدريجياً، وتغيير تصميم المساحات المدرسية جذرياً؟ أعادتني تلك المديرة بحديثها إلى محاضرة تشرفت بحضورها للدكتور سوغاتا ميترا (Sugata Mitra)، تحدث فيها عن إحدى أفكاره الخاصة بـ"التعليم الأقل تدخلاً"، من خلال تجربته "ثقب في الجدار" التي بدأها في العام 1990 واستغرقت ست سنوات. في هذه التجربة، وضع جهاز كمبيوتر في جدار كشك ليكون متاحاً للأطفال في منطقة عشوائية في الهند وكمبوديا. وقد أثبتت تجربته قدرة مجموعات الأطفال على التعلم الذاتي للغات وغيرها من العلوم، فقط من خلال تواجدهم أمام الكمبيوتر. اعتبرت طريقة سوغاتا، آنذاك، طريقة ثورية في التعليم لم يتبنها الكثيرون، علماً أن هذه الطريقة، برغم بساطتها، كانت لتنقذ الملايين من الأطفال في المناطق الفقيرة آنذاك من الأمية. أمّا الآن، ها هو سوغاتا يتحدث عن مفهوم جديد: "مدارس في السحاب". ومن خلال تجاربه، يؤكد أن أفضل أنواع التعلم تحدث في بيئات حرة غير منظمة، وغير خاضعة للرقابة، وتؤكد على القدرة الذاتية للتعلم من خلال الإنترنت، بشرط خلق جو تشجيعي، وبيئات تعلم ذاتية في التنظيم الذي يُطلق عليه "سول"، حيث تتكون كل بيئة من مجموعة من الطلبة متشاركين في كمبيوتر، يعملون ضمن بيئة تفاعلية حرة للإجابة عن سؤال كبير. ويقول سوغاتا: "حوّلوا المنهج إلى أسئلة، وغيروا طريقة التقييم من استدعاء الوقائع إلى التعبير الإبداعي. ابحثوا عن طرق حل المشكلات، لا تفاديها. أنشئوا مدارس على شكل مساحات للتعلم الذاتي بدلاً من مساحات غرف صفية، عندها فقط ستتحسن القراءة، وينمو التفكير النقدي، وتُبنى الثقة بالنفس، ويُزهر الإبداع". وأضيف له قائلة، وكُلّي أمل: "عندها سيقف أولادنا في نهاية المشوار، ليستلموا شهادة تعترف لهم بأنهم حقاً جاهزون لما تقدم الحياة من طوفان". نعم، لنا أن نقلق على هذا الجيل الذي بات يتحدث لغة غريبة عنا؛ هذا الجيل الذي يتواصل ويتعلم من خلال الشاشات. لنا أن نقلق عندما يتغير محور الحديث في مؤتمرات التعليم من "كيفية إدخال التكنولوجيا إلى التعليم" إلى "كيفية دمج أساليب التفاعل الإنساني في تكنولوجيا التعليم". وأترككم مع تساؤل قد يحتمل آلاف الإجابات التي تناسب كلا منا على حدة: كيف لنا أن نجد هذا التوازن في عصر إدمان التكنولوجيا الذي غزا حياتنا وحياة أولادنا اليومية؟ - الغد .
اوائل - توجيهي أردني .