د. نارت قاخون - ينظر معظم العرب والعالم بالتقدير والتعظيم لتجربة "النهوض اليابانيّة"، التي يبلغ أن توصف بـ"المعجزة". وهو وصف يدلّ على عظمة النهوض اليابانيّ وسرعته في آن. وإن قلّ مَن يجادل في عظمة النهوض اليابانيّ، فإنّ سرعة هذا النهوض، وتحديد الإطار الزماني الذي استغرقه واحتاجه، ينبغي أن تُدرَس بعمق أكبر. فالدارس للتجربة اليابانيّة يعلم أنّها نتاج قرون من العمل والإصلاحات والسياقات التاريخيّة، وليست مجرّد قرار أو لحظة "انبعاثيّة فارقة". وفي كتاب "محمد أعفيف" الموسوم بـ"أصول التحديث في اليابان 1568-1868"، ما يوضّح هذه القضيّة ويضعها في السياق التاريخيّ بكلّ مكوّناته. ورغم هذا العمق التاريخيّ لتجربة "النهوض اليابانيّ"، إلا أنّ الدارس لا يستطيع إهمال أثر "الإمبراطور ميجي" ومدّة حكمه التي تمتدّ من 1868 إلى 1912، في تحقيق النهوض والانتقال به إلى مستويات واضحة من الحضور والتجلّي في الواقع اليابانيّ والعالميّ. وهي مرحلة لا تنقطع عن السياقات التاريخيّة قبلها، ولكنها تتميّز بوضوح الرؤية لما هو مطلوب من المرحلة القادمة. ويظهر ذلك في بنود "القسَم الإمبراطوريّ" الذي أدّاه "ميجي" العام 1868، والذي لم يكن مجرّد قسم بل أقرب إلى "دستور النهضة"، وهو القسم المعروف بـ"القسم المخمّس أو الخماسيّ"، لاحتوائه خمسة بنود تُشكّل كلّها مرتكزات نهضويّة فائقة الأهميّة، تستحقّ جميعها الدراسة والاستفادة منها، ولكنّني أقف في هذا المقال مع البندين الأخيرين، لما يحملانه من حمولة فكريّة وفلسفيّة، وهما: - سنحطّم كلّ تقاليد الشرّ الماضية، ونعتمد على قوانين العدالة الطبيعيّة. - سنبحث عن المعرفة في كلّ مكان من العالم. يقوم هذان البندان على جملة من المواقف الفكريّة والفلسفيّة التي لا يُمكن للنهضة أن تتحقّق من دونها، ومنها: * الانعتاق من "الماضي" بوصفه "العيار الوحيد" لما ينبغي أن نكون عليه، وما يجب أن نفعل أو لا نفعل. فالمثال والنموذج ليس نتاج الأزمنة الماضية، ولا هو حكر على تجارب الأسلاف والأجداد، بل ينبغي أن يكون النموذج دوماً ابناً للمستقبل، يجعل التقدّم سيرورة وصيرورة إلى زمن قادم لا عودةً واستعادةً لزمن ماضٍ مفقود. * تقويم الماضي وتقاليده تقويماً صارماً صادقاً يميّز خيره من شرِّه. ولأنّ جدل "الخير والشرّ" يمكن أن يتحوّل إلى جدل لا ينتهي، وينشغل بـ"عيار الخير والشرّ" عن العمل لجلب الأوّل ودفع الثاني، جاء القسَم بضميمة مهمّة تحدّد عيار "الخير والشرّ"، وهو "قوانين العدالة الطبيعيّة"؛ أي ذلك العدل الذي ينسجم مع منطق الطبيعة الإنسانيّة والكونيّة المُكتَشف بالعلم الحديث، ممّا يعني أنّ تقاليد السابقين "محكومة" لا "حاكمة". وفي الإحالة إلى "العدالة الطبيعيّة" في سياق التجربة اليابانيّة تجاوز لمظاهر غياب العدل التي تأسّست على "التجربة الطبقيّة" التاريخيّة في اليابان؛ فالحقوق والواجبات كانت فرعاً عن "المكانة الطبقيّة"، فينال الإمبراطور وأسرته والنبلاء وقادة الجيش حقوقاً فائضة على حساب عامة الشعب بسبب وضعهم "الطبقيّ" لا "الطبيعيّ"، وهذا المفهوم للعدالة الطبيعيّة يجعل الشعب اليابانيّ كلّه متساوياً في حقوقه وواجباته. كما فيه إشارة واضحة إلى الإطار الفلسفيّ لمفهوم "العدل والخير والشرّ" الذي ستقوم عليه "النهضة اليابانيّة"، وهو "المنجز الفلسفيّ" لفلاسفة النهضة والتنوير الأوروبيّ الذي قامت عليه التجربة الأوروبيّة متأسِّسة على منجزات العلم الحديث. * يقوم هذا القسَم في بنده الأخير على الإيمان بالعلم والمعرفة وسيلة مثلى في تحقيق النهضة. فالعلم والنهضة توأمان لا ينفصلان. وإضافة لهذا الإيمان، فإنّ منطوق القسَم يتضمن أمرين مهمين، هما: الانفتاح على العالم الحديث والنهل من معارفه وتجاربه؛ والإقرار بأنّ اليابان تمرّ في تلك المرحلة بطور "التلمذة" لا "الأستذة"، فهي محتاجة لـ"التعلّم" من الآخرين. وفي هذا الإقرار تحوّل نفسيّ كبير في الوجدان اليابانيّ لم يكن مقبولاً بسهولة في تلك المرحلة، بل بقيت قطاعات من الشعب اليابانيّ تعانده وترفضه، فالأمر يُصيب الكبرياء اليابانيّ في الصميم؛ فهم شعب شديد الاعتزاز بنفسه، يرى أنّه في مركز الكون والعالم، فكيف يقبل أن يكون "تلميذاً" عند "الآخرين"؟ ولولا أنّ نفراً قليلاً اقتنع بقوّة بهذا التحوّل الذي يفرضه واقع التقدّم العلميّ عند الآخرين، وواقع التأخّر العلميّ عند اليابانيين، واستطاع تحويل قناعته إلى إدارة سياسيّة تقوم على إرادة قويّة، لما كان للنهضة اليابانيّة أن تقوم. وإذا نظرنا إلى التجربة العربيّة لنرى مواضع التشابه والاختلاف في هاتين القضيتين، مع الإشارة إلى أنّ عوامل الاختلاف لا تنحصر فيهما، فما الذي حصل مع تجارب النهوض العربيّة المعاصرة التي تزامنت مع مرحلة النهضة اليابانية في عصر "ميجي"؟ بل إنّ بعض المفكّرين يرون التجربتين بوصفهما متشابهتين في المقدّمات ومختلفتين في النتائج. سأشير هنا إلى أمر لا أزعم أنّه كلّ الأسباب والعوامل، ولكن كان له أثر مهم، وهو "الانتكاسة والتراجع" عن الإقرار بالمقدِّمات التي بدأت تتجلّى في طروحات حركات "الإصلاح والنهضة العربيّة" في نهايات القرن التاسع عشر. فمدوّنات ذلك العصر تُظهر قبولاً وإقراراً بتحوّل "نموذج التمدّن"، ووعياً بممكنات التراث وموجبات التغيير والأخذ من الآخرين، واعترافاً موازياً بطور "التلمذة الحضاريّة" الذي ينبغي أن تخوضه الأمة لتستفيد من "الآخرين"، فهذا "قاسم أمين" يقول في كتابه "المرأة الجديدة": "فإذا كان التمدّن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يُكشف الغطاء عن أصول العلوم، فكيف يمكن أن نعتقد أنّ هذا التمدّن كان نموذج الكمال البشرى؟ يهمّنا ألّا نبخس أسلافنا حقّهم ولا ننتقص من شأنهم، ولكن يهمّنا مع ذلك ألا نغشَّ أنفسنا بأن نتخيّل أنّهم وصلوا من التمدّن إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، فنحن "طلاّب حقيقة" إذا عثرنا عليها جاهرنا بها مهما تألّم القراء من سماعها". هذه الكلام يعبّر عن وعي بالتحوّلات الواجبة، وإدراك لقيمة الأسلاف أيضاً من دون أن يكون في ذلك مبالغة تسبّب "القعود" و"الارتماء لمنجزهم السابق"، ومن دون بخسهم حقّهم وتشويه منجزاتهم. ولكن في العمق يكمن الإدراك بأنّ "الصيرورة الحضاريّة" تقوم على استثمار آفاق العصر وممكناته، و"الاقتراض" الواعي من "منجزات الآخرين"، ففي الخبرة الحضاريّة ما يتجاوز خصوصيّات التجارب التي أنجزتها إلى "المشترك الإنسانيّ"، وأنّ "النموذج" الذي يحقّق "التمدّن والنهضة" هو "النموذج الذي يتأسّس على العلم الحديث"، وهو نموذج يتجلّى في التجربة الأوروبيّة. وفي "أوروبيّة النموذج" تكمن المشكلة؛ لأنّ التجربة الأوروبيّة التبست في تدافعها مع الواقع العربيّ بحضورها "الاستعماريّ الإمبرياليّ"، ممّا جعل مكوّناتها النهضويّة متأثّرة باستقطابيّة "العداء"، لذلك لم يكن "الإقرار بالنموذجيّة الأوروبيّة" موضع قبول بالجملة في تلك المرحلة ولا المراحل التالية، ولكنه كان في الغالب عند النخب المثقّفة في تلك الأزمنة موضع قبول اختباريّ اعتباريّ، تجلّى بمحاولات جادة للاستفادة من منجزات الأوروبيين ومراجعة "التراث"، وتقويم أنظمة المجتمع والسياسة، وطرح الأسئلة الكبرى، والشروع في محاولة الإجابة عنها وفق التحوّلات التي تفرض نفسها. ولكنّ الواقع العربيّ شهد "انتكاسة"، فعوض البناء على هذه الإقرارات، والعمل على تطوير الإجابات، واستثمار الوعي بطور "التلمذة"، انقلبنا إلى حالة تقوم على "التشكيك بالأسئلة نفسها"، و"بأستاذيّة الغرب" واتّهام مقاصده ومنجزاته، وإنكار أنّنا في طور "التلمذة" بوهم "الأستاذيّة الدائمة" مفترضين أنّنا أساتذة العالم قديماً وحديثاً، وهذه "الأستاذيّة" لم تكن بحكم "الواقع" بل بحكم "التاريخ"، فاجتاحت الوعيَ العربيّ حالة من "السلفيّة الماضويّة" ترى الخير محصوراً فيما كان، وتختزل مشكلات الأمّة في ابتعادها عن "النماذج السالفة". وهي حالة لم تقف عند "الخطاب الدّينيّ" بل تجاوزته إلى "الخطاب الفكريّ" عموماً. وقابلتْ هذه الردّةَ "التاريخيّة" رِدّةٌ "جغرافيّة" ترى أنّ الحلّ هو في الانقطاع الكليّ عن تجربتنا، ومحاكاة التجربة الأوروبيّة جملة وتفصيلاً. لا شكّ أنّ هناك عوامل أخرى مهمة ساهمت في هذه الحالة "الانتكاسيّة"، وإعادة إنتاج الأزمة، ولعلّ أهمّ المشاكل اختلافنا في الأسباب الحقيقيّة لأزمتنا، الذي أنتج اختلافاً في وضع الخطط العلاجيّة النافعة وتنفيذها، وغياب رؤية واضحة لمفهوم "النهضة" يُمكن أن نُقسِم على تحقيقه.الغد