أ. د. وليد المعاني
قليل هو الحراك الفكري الذي نتج عن المقالين اللذين نشرتهما في "الغد" عن "التعليم الموازي والتمويل الجامعي ومجانية التعليم" (14/ 3/ 2016) و"نحو عدالة مجتمعية وتكافؤ للفرص: تعليم عال مجاني وصندوق وطني لدعم الجامعات الرسمية" (31/ 3/ 2016). إذ فيما عدا مقال للأخ الصديق معالي الأستاذ الدكتور فايز الخصاونة، فإن أي تعليق لم يصدر حتى عن أولئك الذين يتحدثون في التعليم بكثرة. لا بل إن أحدا لم يتناول الموضوع بنقد إيجابي أو سلبي، بمن في ذلك الصحفيون والأشخاص الذين أرسلت لهم المقالين شخصيا. ولا أدري ما سبب حالة عدم الاهتمام أو عدم الاكتراث هذه تجاه القضايا المهمة، وما هو سبب الرغبة في نقد الأمور من دون المشاركة في طرح الحلول.
إنني لا أقترح حلولا لمشاكل التعليم العالي في الحوكمة والقبول والمناهج وأعضاء هيئة التدريس، ولا على صعيد ترشيد الإنفاق وتقوية البحث العلمي والابتعاث. ومجالات البحث في هذه القضايا مفتوحة لمن يريد أن يبحث ويقترح، ولكنني أتحدث في جزئية التعليم العالي المجاني على مستوى البكالوريوس للمقبولين عبر القبول الموحد، ضمن الأعداد المقرة من هيئة الاعتماد، وبالتالي فإن هذا مجال البحث والتعليق.
تاريخيا، لم تدعم الحكومات المتعاقبة أيا من الجامعات الرسمية دعما مباشرا، فيما عدا الدعم الذي قُدم لمدة سنتين عند إنشاء الجامعة الأردنية، والدعم الذي قدم للجامعات منذ 1/ 1/ 2011 بعد دخول قانون الضريبة الموحد الصادر في العام 2009 حيز التنفيذ. لقد مول الشعب الأردني التعليم العالي ما بين العامين 1964 و2010 من الضرائب التي فُرضت عليه لمصلحة الجامعات "خصاً نصاً"، ومنها تلك الضرائب التي اقتطعت بعضا من رسوم جمركية، أو تلك التي أقرت ضريبة إضافية على بيع أرض أو بناء بيت أو رسم مخطط أو رسم تلفزيون أو دينارا على فاتورة هاتف.
لقد اقتنع الشعب الأردني بأهمية التعليم، وفهم تماما أن لا تنمية أو تقدم من دونه. وتشرّب هذا الشعب حقيقة أن التعليم هو سبيل الفلاح والنجاح، فأقبل عليه شيبا وشبانا؛ الشبان يسعون إليه لكسب التأهيل الذي يفتح أبواب الحياة لهم، والشيب لأننا جعلنا الدراسات العليا بابا للرقي والتقدم.
كما شرّعنا أنظمة وتعليمات تحط من مستوى التعليم التقني وترفع من مستوى التعليم الأكاديمي ماليا ووظيفيا، بحيث انصرف الناس عن الأول وتهافتوا على الثاني. غير أن هذا التشجيع على التعليم الأكاديمي لم تقابله تنمية اقتصادية لامتصاص الأعداد المتراكمة من الخريجين، فتزايدت البطالة والاختلالات في سوق العمل.
واكب كل هذا طلب متزايد على التعليم الأكاديمي ونقص في الالتحاق بالتعليم التقني، وشح في التمويل الجامعي، فلم تجد الجامعات وسيلة للتمويل غير البرامج الموازية لتوفير المال لإدامة عملياتها، ودفع رواتب أساتذتها وموظفيها الضروريين وغيرهم. وأخذ البرنامج الموازي يتمدد على حساب البرنامج العادي تدريجيا.
في المقالين السابقين، طرحت مقترحا يتمثل في إلغاء تدريجي للبرنامج الموازي، وتعويض مالي للجامعات مقابل ذلك. وعندما نظرت في البرنامج العادي، وجدت أن الدولة تمول 50 % من طلبته، فاقترحت أن يتم تمويل الـ50 % الباقية بأسلوب نصل به إلى تعليم لا موازي فيه ولا رسوم جامعية تطلب مقابله. واقترحت أن نمول كل هذا نحن الأردنيين، كما كنا نمول التعليم العالي منذ 1964 وحتى 2010، شريطة وضع ضمانات معينة لئلا تؤول الأموال الجديدة إلى مصير مشابه لمصير الأموال السابقة.
تلقيت تعقيبات على طروحاتي هذه؛ من أولئك الذين يعتقدون أن التعليم المجاني يجب أن يكون للمتفوقين فقط، إلى أولئك الذين ينادون بأن التعليم العالي أساسا هو للنخبة، ولا يجوز أن يُقبل فيه كل من تخرج ناجحا في امتحان الثانوية العامة "التوجيهي".
لقد أراد أغلب الناقدين خلط الأوراق لتشتيت الفكر، وتوسيع مجال البحث حتى تفقد البوصلة اتجاهها. إذ لم أطرح إطلاقا أن القبول للجميع، ولم أقل إن الحد الأدنى للقبول هو 60 %، وقطعا لم أناد بإغلاق الجامعات الخاصة. وهذا الأمر الأخير لا يثار إلا بهدف الدعوة للاصطفاف في معسكرات متضادة.
الدعوة التي أنادي بها واضحة محددة، تقوم على ترشيق الأعداد في الجامعات لتتواكب مع متطلبات الاعتماد، ويلتحق بالجامعات ضمن هذه الأعداد المقررة كل طالب تنافس وحصل على مقعد من خلال القبول الموحد. ومتى التحق هؤلاء، كانت دراستهم مجانا طالما بقيت معدلاتهم التراكمية فوق 2 من 4.
واستكملت المقترح بأن حددت مجال التمويل من أبناء هذا الشعب؛ متكافلين متضامنين، ندفع كلنا لمن التحق بالتعليم الرسمي تنافسا. وهو تمويل يحافظ على مدخرات الناس، ويمنع بعض الطبقة الوسطى من الذوبان والتلاشي. وهو أنموذج يساعد على توجيه الناس للتعليم التقني.
التعليم العالي ليس فقط للقادرين عليه ماليا، ولكن للقادرين عليه عقليا، حتى لو لم يملكوا شروى نقير، وواجبنا توفير المال للناس حتى يتعلموا. أما القول بأننا يمكن أن نقرض الناس أموالا يسددونها بعد تخرجهم فهو قول سهل وصحيح لو توفرت فرص العمل، ولكن في مجتمع لا يجد غير 30 % من قواه الواردة إلى سوق العمل فرصا، وتبقى البقية تحوم في متاهات البطالة وقوى الجذب، فلا مجال للتسديد على الإطلاق، وسيفشل أي مشروع يتبنى هذا الطرح.
دعونا لا نضع العصي في دواليب الحلول. ولنتشارك كلنا من أجل كل أبناء هذا الوطن؛ نؤهلهم، فنحميه من عاديات الزمن، ونمول تعليمهم فنزيد فرص رخائه، ونتكاتف معا لنزيد الترابط بيننا. فاستمرار بقائنا مع بعضنا هو الضمان لقوة مجتمعنا ونموه وتقدمه.
اوائل - توجيهي أردني