الادمان الرقمي
في داخل أحد الفصول، قال الصبي الصغير لصديقه: “انظر إلى الصورة التي نشرتها الآن على الفيسبوك، لقد حازت على 150 إعجاب!”، أومأ صديقه بِحُزْنٍ، وأضاف بهدوء “إنها… جميلة جدًا. أفضل صورة لديّ حصلت على 80 إعجاب فقط”.
مَنْ منكم يظن أن هذه القصة حقيقية؟ جيد الجميع معنا إذًا. قد نتعجَّب قليلًا ونتساءل: كيف أصبح مؤشر السعادة أو النجاح في مجرّد إعجاب/لايك. لكن الإجابة تتلخَّص في ثلاث كلمات: إنه العصر الحديث.
* أشكال الإدمان الرقمي :
الجميع – إلا من رحمه ربّي من الشرّ “الذي لا بُدّ منه!” لدى البعض – لديه حساب خاص على الأقل على الشبكات الاجتماعية، مما يعني بدوره أن لدينا أمثلة أخرى من إساءة استخدام التقنية.
الْهَوَس بالسيلفي، وإدمان الألعاب حتى لا يُغادر اللاعب منزله إلا قليلا، وكتابة أو قراءة الرسائل النصيَّة أثناء القيادة، وأولئك الذين لا ينفصلون عن هواتفهم حتى في وجبات الطعام، وهذا المُفرط في خصوصيته على الشبكات الاجتماعية، ولا ننسى هؤلاء المتطلّعين على الواتساب في كل دقيقة حتى وإن كانوا في اجتماعٍ هام أو في جلسة عائلية مع والديهم/أبنائهم/زوجاتهم/أزواجهم.
* أعراض وأضرار الإدمان الرقمي :
كشفت الدراسات بالفعل عن الآثار الجانبية المُتَرَتِّبَة على هذا الواقع: ارتفاع مستوى القلق، وخطاب سباق الأفكار – المؤدِّي إلى الْهَوَس والاضطرابات النفسية الأخرى -، وانخفاض التركيز، وانخفاض الأداء في الدراسة والعمل، وصراعات في العلاقات مع الآخرين، والْعُزْلَة الاجتماعية. كذلك الأطباء والمُعالجين يُسَلِّطُونَ الضوء على عواقب قِلَّةِ النشاط البدني، وارتفاع عدد حالات آلام الفقرات والعمود الفقري، والتهاب الأوتار؛ نتيجة التجاوز في الكتابة على الجوَّالات واستخدامها في أوضاع وهيئات غير صحيحة.
إذًا، كيف يُمكننا التعامُل مع كل هذا؟ وأيّ الأمور التي تحدّ من الاستخدام السليم لإساءة استخدام التقنية؟ وكيف يُمكن مُعالجة ذلك ومَنْعه؟
لا نستطيع أن نحظر أو ننكر التقنية. فهي جزء من واقعنا، وعندما برزت لنا كانت وسيلة لتحسين الوقت ورعاية العلاقات الإنسانية. ومع ذلك، ففي العصر الحديث نجد أن الإنترنت والمحمول الذي يربطنا بالبعيد أيًّا كان مكانه، يتم استخدامهم في الوقت نفسه للابتعاد عمَّن هم حولنا.
يُمكننا مُقارنة أثر التحوَّل الاجتماعي إلى الشبكات الاجتماعية بآثار الثورة الصناعِيَّة. فإمكانية الاتصال الفوري، وسرعة إرسال الرسائل ومقاطع الفيديو أو الصور إلى الشبكات الاجتماعية تُنْشئ سلاحًا قويًا يعمل بنقرة واحدة فقط.
* مثال على الإدمان الرقمي :
وَمِنَ الأمثلة الشائعة هي تلك الفئة الخجولة من البشر الذين يمكنهم التحرك بطريقة أكثر سهولة من خلال الشبكات الاجتماعية. الأمور تسير على ما يُرام إلى الآن. تبدأ الْمُشكلة عندما يزيد الإفراط في الْعُزْلَة عن الحياة الحقيقية/أرض الواقع، وبذلك نجد مُفارقة أكبر ضررًا في العلاقات. نعم يساعد الفيسبوك، والواتساب، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي على اللحاق بالأصدقاء القدامى، أو البقاء على اتصال مع من هو بعيد المنال. ومع ذلك، عندما يُساء استخدامها، يتبدَّل الإدراك بالزمانِ والمكان، مما يفتح بوّابة اضطرابات القلق، والاكتئاب، والرّهاب الاجتماعي.
لا ترتبط مشكلة الاعتماد الرقمي مُباشرة مع قضية تخصيص الوقت على الأجهزة الإلكترونية – وإن كانت هذه مشكلة كبيرة أخرى -، وإنما بفقدان السيطرة على الحياة الحقيقية/الواقعية، مع تكبُّد خسائر لا حصر لها في المجالات: الشخصية، والمهنية، والعائلية، والعاطفية، والاجتماعية. أي أن الإفراط في استخدام الإنترنت، أو الأجهزة المحمولة، ليس بالضرورة أن يصبح اعتمادًا رقميًا. أي بمعنى آخر، يمكننا اعتبار أن ليس كل إفراط هو اعتماد على الأجهزة الرقمية، ولكن كل اعتماد رقمي هو إفراط. ونستطيع تقييم الاعتماد الرقمي أو فقدان التحكم في الحياة الواقعية من خلال خمسة أبعاد: الشعور بالأمان، والعلاقات، ومدى التحمُّل والتسامح مع الآخرين، والامتناع عن الضروريات – مثل الانشغال بلعبة أو بمحادثة عن الطعام، وما شابه -، وصراعات الحياة الواقعية.
* حقيقة الإدمان الرقمي :
ومِمَّا اثار انتباهنا، وجود الكثير من المُشاركات التسويقية الذاتية على الفيسبوك، والتي كانت موضوع دراسة في جامعة هارفارد. ووفقًا للدراسة، فإن الحديث عن النفس هناك يُعادل الشعور بلذَّةِ الطعام، وكسب المال، والنوم، وغيرها من الملذَّات والشهوات. في المحادثة العادية، فإنها تستقطع 30% من الوقت، بينما على الشبكات الاجتماعية تصل النسبة إلى ما يقرب من 90%، مع إمكانية الردَّ الفوري. وهذا يُولِدُ بدون وعي شعورًا بالمُتعةِ الفَوْرِيَّة، لكنها لا تدوم طويلًا. ذكرت الدراسة أيضًا أن أكثر من نصف مُستخدِمي الفيسبوك النشطين يعتقدون أنهم أكثر بؤسًا ويأسًا عن أصدقائهم موجودين على العالم الافتراضي؛ لأنهم يعتقدون أن حياتهم مثالية، فمن يتحدث عن زفافه يبدو الأمر وكأنه أعظم زفاف في العالم، ومن يمدح وظيفته تبدو وكأنها وظيفة الأحلام، وقد يكون الواقع على خلاف ذلك.