إن إرادة التعليم تسبق إرادة التعلم مقولة صحيحة مئة بالمئة، والسبب في ذلك يعود إلى أن السلوك الإنساني يحركه عامل الدافعية. فإذا لم يشعر الإنسان بقيمة ما يعمل، فلن تكون لديه الدافعية للقيام بالعمل ولن تكون لديه الإرادة اللازمة لتطوير العمل ولن يصل بتفكيره إلى مصاف المفكرين العابرين للمنطق، أي المبتكرين. فعبور المنطق وتجاوزه لا يتم إلا باعتقاد الفرد أنه يمكنه القيام بمهام ينظر إليها الأفراد على أنها مستحيلة وغير ممكنة، وقد يصل هذا الإحساس إلى القارئ الكريم الآن فيتساءل: هل من الممكن أن تخرجنا المعتقدات التربوية للمعلمين من عنق الزجاجة؟؟؟
والإجابة نعم، إن المعتقدات هي كلمة السر، المعتقدات هي المحرك، المعتقدات هي الدينامو الذي يشحذ الهمة وينير الطريق.
قديمًا سادت معتقدات تربوية مازال لها تأثير قوي على العملية التعليمية حتى اللحظة في معظم دول العالم المتقدمة منها والنامية، مثل معتقدات المدرسين حول طبيعة العمل في التدريس، وقوة شخصية المدرس، واستخدام العقاب كأسلوب فعال في عملية التعليم، والتقويم المستمر، وكذلك أهمية دور المدرسة في تربية التلاميذ و استخدام المسابقات كأسلوب فعال للتعليم.
ولكن المعتقدات التربوية ليست بناء ثابتًا راسخًا كالمعتقدات الدينية لدى الأفراد، فالمعتقدات التربوية تتسم بالثبات النسبي وليس الثبات المطلق، لأنها قابلة للتحديث والتغيير، وهذا ما استغلته دوائر تطوير التعليم بالدول المتقدمة ومراكز البحث التربوي حيث تم التعرف على المعتقدات المترسخة لدى المعلمين ثم فرزها وتقييمها في ضوء التطور المتسارع لأدوار المعلم من ملقن إلى ميسر وموجه لتلاميذه إلى قائد رقمي وميسر إلكتروني إلى محفز لبيئات التعليم الابتكارية.
ومما يميز المعتقدات التربوية للمعلمين: ارتباطها بما يفضله المعلم من وسائل وطرائقٍ تدريسية، وأنها ذات طابعٍ وجداني ومعرفي، وأنها فعالة في توجيه سلوك المعلم وفي التأثير على تحصيل التلاميذ، وتعبيرها عن أفكار وتوجهات تربوية وتدريسية يعتقد المعلم في صلاحيتها للتطبيق الميداني في كل ما يتعلق بالعملية التعليمية من مناهج واستراتيجيات وطرق تدريس وأساليب تقويم ومداخل تعلم.
يتضح مما سبق أن معتقدات المعلمين تعد من أخطر العوامل المؤثرة على عملية التعليم بشكل عام وعلى تعلم تلاميذه بشكل خاص. وقد أصبح من الضروري على أنظمتنا التعليمية والسياسية مراجعة المعتقدات التربوية السائدة لدى المعلمين، حيث أن التكنولوجيا المادية لا تفيد في شيء إذا كانت تسير بعيدًا عن تكنولوجيا المعتقدات، مع إعادة هندستها وبرمجتها بما يتوافق مع متغيرات العصر، وبما يتناسب مع الأدوار المبتكرة الملقاة على عاتق معلم مظلوم تشغله الأعمال الروتينية ويشغله تنفيذ تعليمات المشرف التربوي ومدير مدرسته الذي يكتب عنه تقارير تكون أحيانا عديمة الفائدة..
ومما دعاني لكتابة هذا المقال نتائج دراسة الماجستير التي قمت بها تحت عنوان ” بعض المتغيرات المسهمة في الفاعلية الذاتية التدريسية لدى بعض معلمي المرحلة الابتدائية”. فقد توصلت هذه الدراسة إلى نتائج مهمة تثبت أن المعتقدات التربوية هي كلمة السر في النهوض بالتعليم لأنها ستنهض بالمعلم، وهو محور نجاح أي عملية تنمية. ولايخفى على القارئ الكريم أن فاعلية الذات تعد محركا لسلوكيات الفرد وفاعلية الذات التدريسية. والفاعلية الذاتية التدريسية هي معتقدات المعلم حول مايمكنه القيام به من سلوكيات تربوية وتعليمية للتأثير في تحصيل طلابه وسلوكياتهم حتى وإن كانت مستوياتهم التحصيلية والسلوكية دون المستوى المقبول. ولولا وجود هذه المعتقدات ماكان للمعلم أن يقوم بعمله على الوجه المطلوب، لأن هذه المعتقدات هي حول النجاح في مهمة التدريس، وكذلك حول ناتج التدريس الذي قام به.
فالمعتقدات التربوية وفقًا لنتائج دراستي التي أجريتها على معلمي المرحلة الابتدائية تعد من أكثر المتغيرات النفسية إسهامًا في الفاعلية الذاتية التدريسية للمعلمين، وقد فسرت هذه النتيجة المهمة في ضوء العمليات المعرفية المؤثرة في فاعلية الذات التدريسية، لأن المهام والأنشطة التي يقوم بها المعلم تبدأ بأفكار ومعتقدات تعمل على توجيه المعلم -أي معتقداته التربوية – وتؤثر في فاعليته الذاتية التدريسية. وقد يسخر القارئ من كون المعتقدات التربوية قادرة على حل مشكلات قرن من التأخر عن قاطرة الدول المتقدمة؟ والإجابة نعم، لأن دور الفرد كقوة مؤثرة في معتقداته عن نفسه أكثر من تأثير العوامل البيئية المحيطة، وهذا ما وصفته النظرية الاجتماعية المعرفية لباندورا بالقوة الإنسانية والتي تعتبر محركا رئيسيا لفاعلية الذات عامة وفاعلية الذات التدريسية بشكل أخص. بالإضافة إلى أن تكوين جيل من المعلمين يتسم بارتفاع مستوى فاعلية الذات التدريسية هدف حيوي لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع بدون معتقدات تربوية متنوعة ومتطورة ومواكبة للتغيرات والطفرات الهائلة التي حدثت وتحدث في الأدوار المنوطة بالمعلم وتتسق مع الآمال المتوقعة من المجتمع في معلميه، فهذه الركائز أساسية ومصادر هامة لتشكيل اعتقاد المعلم في فاعليته الذاتية التدريسية.
ومن الخطير أن المعتقدات التربوية للمعلم تعد أحد مصادر فاعلية الذات التدريسية حيث تشكل الخبرات المباشرة مصدرًا أساسيًا في الحكم على مدى فساد أو صلاحية المعتقدات التربوية للمعلمين، حيث يختبر المعلم ما يعتقد في جودته وصلاحيته للتطبيق من معتقدات تربوية في إطار الخبرات أو التجارب التي تقوم على إنجاز فعلي حقيقي عبر مدى واسع من الأنشطة التي قام بها. و بتملك المعلم للكثير من المعتقدات المتطورة ترتفع معتقداته عن فاعليته الذاتية التدريسية والعكس بالعكس، وكذلك ما يتعرض له من خبرات غير مباشرة كتلك الخبرات التي يتعلمها المعلم من المعلمين الأقدم والمشرفين أو أي نموذج يمتلك المهارة التدريسية، فتساعد تلك الخبرات المعلم في بناء معتقداته التربوية التي تؤثر على مستوى فاعليته الذاتية التدريسية. كما تتأثر معتقدات المعلم التربوية بالإقناع اللفظي الاجتماعي، وهو من أهم العوامل المؤثرة في الفاعلية الذاتية التدريسية للمعلم حيث يمثل مصدرًا للتشجيع والدعم الذي يتلقاه الفرد من ذاته ومن الآخرين، وهذا يعد بمثابة تغذية راجعة إيجابية تعمل على تقييم هذه المعتقدات التربوية وإدخال تحديثات مستمرة عليها واختبارها مما يؤثر في معتقدات فاعلية الذات التدريسية. كما أن إسهام المعتقدات التربوية في فاعلية الذات التدريسية لدى الذكور والإناث يتفق مع الافتراضات النظرية التي قامت عليها فاعلية الذات التدريسية، حيث تشغل العمليات المعرفية دورا فاعلاً وحتميًا في فاعلية الذات التدريسية، لأنَ المعتقدات التربوية للمعلمين بمثابة المطبخ الذي تنطلق من خلاله الممارسات التربوية للمعلم. وبالتحقق من فاعلية وجودة وسلامة هذه المعتقدات، يرتفع مستوى فاعلية الذات التدريسية. وتؤثر المعتقدات التربوية لدى الإناث في الفاعلية الذاتية التدريسية عنها لدى الذكور، كما يزداد تأثير المعتقدات التربوية في الفاعلية الذاتية التدريسية لدى المعلمين ذوي الخبرة أكثر من المبتدئين ولعل ذلك يعود إلى:
- نضج قدرات المعلمين والمعلمات ذوي الخبرة في التعامل مع المواقف التدريسية المتنوعة، لمرورهم بتجارب تدريسية فريدة ومتنوعة, أسهمت في معتقداتهم التربوية.
- تنوع المؤهلات التربوية لعينة المعلمين والمعلمات ذوي الخبرة – من دبلوم معلمين ومعلمات، ودبلومات تربوية، وليسانس في الآداب والتربية، أو درجات علمية في التربية- أوجد حالة من التنوع في المعتقدات التربوية، والتقاء للخبرات التدريسية مكنهم من اجتناب الكثير من السلوكيات التي تؤثر سلبيًا على مستوى فاعلية الذات التدريسية.
- ساعد اعتقاد المعلمين والمعلمات الخبراء في دور المدرسة في تربية التلاميذ، فعالية المدرس، وأهمية التقويم المستمر والامتحانات الشهرية، و استخدام العقاب البدني كأسلوب فعال في التعليم، والتعامل مع ظاهرة الغش كواقع سيئ يجب تغييره، واعتقادهم في أهمية قوة شخصية المعلم، وتجنب الشرح السلبي، واستخدام المسابقات، وتعدد أدوار المعلم، وتفهمهم لطبيعة عمل المعلم، في ارتفاع مستوى ثقتهم بأنفسهم، وثقتهم في القدرة على التغيير، وأسهم في تشكيل معتقداتهم حول فاعلية الذات التدريسية لديهم.
كما تتأثر فاعلية الذات التدريسية لدى المعلمين والمعلمات المؤهلين تربويًا بمعتقداتهم التربوية، ويحتمل أن يعود ذلك إلى الأسباب الآتية:
- أن المعلمين الحاصلين على دبلوم المعلمين / المعلمات، أو الدبلوم التربوي العام وخريجي كليات التربية قد اكتسبوا جميعًا ثقافة تربوية وتدريسية مكنتهم من القيام بأعمالهم بكفاءة، وذلك لاحتواء برامج الإعداد أو التأهيل التربوي والتدريب التي خضعوا لها على أهم الممارسات التربوية المعبرة عن أنسب المعتقدات التربوية لتلاميذ المرحلة الابتدائية. ولا يتصور أن يتفوق المؤهلون تربويًا على غير المؤهلين في المعتقدات التربوية دون أن يتبع ذلك تغيرًا على مستوى فاعلية الذات التدريسية لديهم بالتبعية.
- أن المعتقدات التربوية التي ثبتت سلامتها ومناسبتها للتلاميذ، تبث لدى المعلم / المعلمة المزيد من الثقة بالنفس، وتدفعه للتجريب والابتكار لضمان مواكبة كل جديد في التربية والتعليم، مما يجعل المعلم / المعلمة في حالة تهيؤ مستمرة تتطلب أن يحافظ على مستوى مرتفع من الاعتقاد في فاعلية الذات التدريسية.
- الإجراءات التي تتبعها الوزارة في تأهيل المعلمين وتدريبهم باستمرار، تضمن تطور معتقدات المعلمين، مما ينعكس على أدائهم التدريسي ويعزز من استخدام ما ثبتت صلاحيته من معتقدات تربوية، مما يؤدي لاعتقاد المعلمين والمعلمات المؤهلين تربويًا في فاعليتهم الذاتية التدريسية.
- لا يمكن للمعلم الاعتقاد في استخدام الاستراتيجيات التدريسية وفي إدارة الصف الدراسي وفي دمج التلاميذ في البيئة التعليمية، إلا إذا توفرت لدى المعلمين والمعلمات المؤهلين تربويًا قدرًا كافيًا من المعتقدات التربوية حول أنسب الاستراتيجيات التدريسية، وأنسب أساليب إدارة الصف، وأنسب استراتيجيات استثارة دافعية المتعلمين ودمجهم في العملية التعليمية حتى ذوي المشكلات السلوكية والتحصيلية.
وتتأثر فاعلية الذات التدريسية لدى المعلمين والمعلمات في مدارس الريف بمعتقداتهم التربوية، ويحتمل أن يعود ذلك إلى الأسباب الآتية:
- لقد ساهم تقدير المعلمات والمعلمات في الريف لمهنة التدريس وحبهم لها ورغبتهم في الرقي بمستوى التعليم في الريف والنهوض به في تدعيم معتقدات المعلمين التربوية، مما أدى إلى دعم الاعتقاد بالفاعلية الذاتية في استخدام الاستراتيجيات التدريسية الملائمة لتلاميذ الريف، وتطبيق أفضل أساليب الإدارة ملاءمة لخصائص المتعلمين وإثارة دافعية التلاميذ في العملية التعليمية.
- يتأثر الأداء النفسي لمعلمي ومعلمات الأرياف بمعتقداتهم، وخاصة المعتقدات التربوية. فلا يميل المعلمون والمعلمات للتدريس بطريقة ما إلا عن اعتقاد في مناسبتها للتلاميذ، ولا يديرون عملية التعلم إلا عن خبرات ناجحة سابقة رسخت أفضلية بعض أساليب الإدارة عن غيرها، فيثيرون دافعية التلاميذ للتعلم عن طريق استراتيجيات يعتقدون في فاعليتها التربوية عبر دمج المتعلمين في العملية التعليمية. وقد ساهم ذلك في ارتفاع معتقداتهم عن فاعليتهم الذاتية في استخدام الاستراتيجيات التدريسية، وفي إدارة الصف الدراسي وفي دمج التلاميذ في العملية التعليمية.
لذلك أقدم توصيات هامة عبر عنها عنوان المقال وأظهرت الحاجة إليها نتائج الدراسة التي قمت بها، ومنها:
- الاهتمام بالجوانب الشخصية للمعلم كالمعتقدات التربوية، لما توصلت إليه نتائج الدراسة الحالية من أهميتها في دعم معتقدات فاعلية الذات التدريسية، وذلك من خلال عقد دورات تدريبية بصفة دورية، لتجديد الثقافة التربوية للمعلمين والمعلمات، وإعلامهم بأهم الممارسات التربوية التي يقدمها المهتمون والباحثون في الحقل التربوي، لكي يتم بناء معتقداتهم التربوية وفق أحدث المستجدات التربوية.
- الاهتمام ببناء المعتقدات التربوية للمعلمين وتحديثها في البرامج التي تقدمها كليات التربية أو الأكاديمية المهنية للمعلمين، لما توصلت إليه نتائج الدراسة الحالية وغيرها من أهمية هذه المتغيرات في تشكيل معتقدات فاعلية الذات التدريسية.
- إجراء دراسة تنبؤية مقارنة للعوامل المسهمة في معتقدات فاعلية الذات التدريسية للمعلمين قبل الخدمة وأثناء الخدمة.