اعتبرت الجامعة، ولقرون طويلة، أداة مهمة للنمو الاقتصادي والاجتماعي والعلمي. وكل الدول التي انعدمت فيها تقاليد جامعية، أسست جامعاتها ريثما حصلت على استقلالها، تقليدا للدول العظمى. وكان ذلك نابعا كذلك عن ضرورة تأسيس جامعات وطنية تتكفل بتكوين أطر وطنية كان من شأنها أن تساهم في استقلالية القرارات الوطنية. ويمكن القول أن تلك الجامعات قامت بالدور المنوط كما يجب، وأهلت أطرا مقتدرة وقادرة على تسيير بلدانها. لكن الأزمات الاقتصادية والمالية المتتالية نالت من قدرة الجامعات الوطنية على القيام بدورها، ودخلت هذه الأخيرة في أزمة متعددة الوجوه، مما جعل الطبقات الوسطى والعليا في بلداننا تبحث عن حلول ومخارج لهذه الحالة.
السؤال المطروح حاليا هو: هل من دور لجامعة وطنية في السياق العالمي الحالي؟ للجواب على هذا السؤال، سأتطرق لثلاث تحديات تواجهها الجامعات في الدول ذات الاقتصادات الصاعدة. التحدي الأول هو: هل التعليم الجامعي ضروري للشباب أم لا؟ أو بعبارة أخرى، هل من الضروري أن يدخل الشباب التعليم الجامعي لضمان ظروف حياة شريفة ومريحة وللمساهمة في تنمية مجتمعاتهم؟ التحدي الثاني يتطرق إلى قدرة الجامعة على تكوين الأطر المناسبة لمهن المستقبل، خصوصا أن لا أحد يعرف يقينا ماهي مهن المستقبل تلك؟ أما التحدي الثالث، فله علاقة بنوعية البحث العلمي في الجامعة. وسيتمحور حديثي هنا عن نوعية البحث العلمي و صلته بالمجتمع.
في جلسة تواصلية مع خريجي جامعة الأخوين، أكد بعضهم من الذين قطعوا أشواطا مهمة في حياتهم المهنية للمسؤولين الحاليين على الجامعة لزوم مراجعة بعض الشعب لسبب بسيط: يمكن لأي شاب أن يحصل على تكوين مناسب في مهن متعددة في مؤسسات غير جامعية، خلال وقت قصير ومقابل مصاريف أقل. لماذا إذن سيختار شاب دراسة جامعية طويلة ومكلفة للوصول إلى نتيجة وفرص عمل متشابهة -شيئا ما- فيما بينها. وهذه هي المعضلة الأولى التي تواجه الجامعة، ذلك أن على المؤسسات الجامعية أن توظف أساتذة يحملون شهادات عليا، وغالبا ما تكون شهادة دكتوراه، وعلى الجامعات أن تحضر مختبرات وتحفز على البحث العلمي، مما يعني أن مصاريف الجامعات باهظة، وبالتالي، فهي –أي الجامعات- مؤسسات مكلفة. فلماذا يختارها الشباب وتساندها الدول بدل مؤسسات أخرى أقل تكلفة، وتؤدي إلى وظيفة مشابهة؟ لماذا تحتاج الدول لمؤسسات جامعية إن كان بإمكانها تكوين عدد مهم من الأطر التي تحتاجها عبر سبل أخرى أقل تكلفة؟
التحدي الثاني الذي أشرت إليه يمدنا ببداية الجواب على هذه الأسئلة. للتطرق له، أغتنم ما جرى خلال ندوة شارك فيها رجال أعمال ومستثمرون وسياسيون وأصحاب قرار إضافة إلى أساتذة جامعيين. خلال ذلك اللقاء، أكد المستثمرون ورجال الأعمال أنهم على يقين أنهم بصدد فتح آلاف فرص الشغل خلال السنوات المقبلة، لكنهم لا يعرفون اليوم نوع الشغيلة التي سيحتاجونها. وجاءت تلك الملاحظة لتأكيد دراسات متعددة تتحدث عن كون أغلبية مهن المستقبل غير موجودة ولا هي معروفة اليوم. والسؤال الذي طرحه المستثمرون على أصحاب القرار السياسي وعلى الجامعيين هو: كيف يمكن للمؤسسة الجامعية أن تكون أطرا لمهن لا نعرفها اليوم؟ وهذا فعلا تحد وجداني للجامعة. ففي نفس الوقت الذي يمكن للشاب أن يحصل على تكوين مقبول في ظرف قصير و بميزانية ضئيلة للمهن التقليدية أو المعروفة، وإن كانت بعض المهن الموجودة حاليا من مدرس، ومهندس، وطبيب، ومحام ومحاسب مثلا ستشهد تطورات لكنها ستظل مطلوبة وينتظر من المؤسسة الجامعية التحضير والتكوين لها. فهناك مهن متعددة، وينتظر أن تكون أغلبية المهن، على الجامعة التحضير لها، بل الجامعة هي الوحيدة التي لديها القابلية للتحضيرلها.
من خلال هذا التحدي الثاني إذن، يتضح شيء ما الدور الجديد -أو المتجدد - للجامعة. فعلى الجامعة أن تترك بعض المجالات لمؤسسات أخرى، وعليها التحضير لبعض المهن التقليدية، وأخرى من مهن المستقبل. السؤال الذي يفرض نفسه إذن هو: كيف يمكن للجامعة أن تحضر طلبتها اليوم لمهن الغد دون أن تعرف نوعية أو طبيعية هذه المهن؟
بداية الجواب يقترحها علينا بعض أنجح رجال الأعمال اليوم، مثل مايكل بلومبرغ Michael Bloomberg، الذي يختار كبار مسؤولي شركاته ممن لهم تكوين قوي في التاريخ والفلسفة، لأنهم يحسنون الرجوع إلى الوراء، والتأمل وتعلم دروس الماضي لأخذ قرارات سيكون لها أثر كبير في المستقبل. فمن تحديات التعليم الجامعي اليوم التخصص المبالغ والمبكر. الطلبة وأساتذتهم اليوم يتخصصون في ميادين دقيقة، ويفتقدون بذلك إلى الرؤية الشمولية. ولهذا السبب، شرعت بعض الجامعات في تشجيع الدراسات المتعددة التخصصات لحل مشاكل معينة. ويمكن - باختصار- الحديث هنا عن مثلث التعليم الجامعي : تعدد التخصصات -مما يستوجب العمل الجماعي-، مبادئ ومنهجيات البحث العلمي، وريادة الطلبة. فكلما كان طلبتنا مستعدين لاستعمال مبادئ من تخصصات متعددة، ومتدربين على حل مشاكل تحصل على أرض الواقع، وتقديم حلول موضوعية لها، كلما كان الطلبة مستعدين للتأقلم مع تحديات مهن المستقبل.
إلى التحدي الثالث الآن، والذي يتعلق بالبحث العلمي بصفة مباشرة. كيف تشجع اليوم الجامعة، أي جامعة كانت، البحث العلمي؟ تقوم بذلك من خلال تزويد الأساتذة الباحثين بالموارد المادية والوقت الكافي للقيام ببحوثهم. لكن عددا مهما من الجامعات تحفز أساتذتها الباحثين على القيام بالبحث العلمي ونشرأبحاثهم في المجلات العلمية من خلال ربط ترقياتهم وأجرهم بنشر أبحاثهم. وكلما نشر البحث بمجلة علمية لها صدى، كلما فضلت الجامعات ذلك. لكن كيف تترجم الجامعات «مجلات علمية» لها صدى؟ أغلبية الجامعات تفهم هذه العبارة عبر مؤشرات كالتصنيف (indexation) وتبادل البحث (impact factor) ، أي كم من بحث علمي نشر يستشهد بذلك البحث و يتخذه مرجعا. وأصبحت تبعا لذلك عملية النشر تنحصر على اللغة الانجليزية، وحول مواضيع ومناهج وأساليب تفرضها المجلات العالمية.
السؤال هنا هو: كم من طالب وباحث من بلدان لا تحسن الانجليزية أطلعوا على ذلك البحث؟
وهذا السؤال يطرح نفسه ليس فقط بالبلدان العربية ولكن كذلك بأمريكا اللاتينية وإفريقيا. المجلات العالمية في العلوم الاجتماعية غربية في غالبيتها، ورغم أن البعض منها متفهم لحالة البحث العلمي في جامعات البلدان الصاعدة وتحدياته، فتبقى الرؤية وحدانية والأسلوب كذلك، ولا يوجد عموما أي انفتاح على التعددية الجغرافية ولا المنهجية. لست هنا بصدد الدفاع على عدم النشر بالمجلات العالمية، فأنا كباحث في العلوم الاجتماعية أنشر أبحاثي في تلك المجلات، وأشارك في مجالس نشر بعضها، و أعتقد أن على جامعاتنا أن تحفز على النشر بتلك المجلات، ولكن يجب عليها كذلك أن تؤسس مجلات علمية محلية تتخذ المعايير الدولية كمعايير لها، مع تشجيع وتأهيل الباحثين المحليين على نشر بعض أبحاثهم بها، و ترجمة عدد مهم من البحوث الأجنبية إلى لغاتها المحلية.
فهكذا ستيسر على المستهلك (وهنا أقصد المستهلك الأكاديمي المحلي) عمليتي القراءة والنشر، وستجعل من البحث العلمي أداة فعلية وعملية للتنمية المحلية. وهنا يلزم الاستشهاد بمقال شهير نشره روبرت كوكس Robert Cox في بداية الثمانينات، ميز فيه بين نوعين من النظريات: النظريات التي تهدف إلى حل مشاكل من يحكم، والهدف من هذه النظريات هو الحفاظ على موازين القوى كما هو (وهذا ما يسمى باللاتينية statu quo) ، ثم النظريات التي تهدف الى التحرر، ويعني هنا بالذات تحرر القدرات والإرادات. وأكد كوكس أن كل باحث يقوم باختيار سبيله. فهناك من يحبذ النظريات التي تحافظ على موازين القوى كما هي، وهناك من ينحاز إلى قلب موازين السلط والمساعدة على تحرير من كان مقهورا.
فإذا أردنا أن يكون دور جامعاتنا هو تحرير قدرات شعوب الدول الصاعدة، علينا أن نؤهلها كي تلعب هذا الدور بطريقة ناجحة، و أن تكون إلى جانب أطر المهن التقليدية، أطرا لمهن المستقبل، كما يجب عليها أن تحفز على البحث العلمي ذي الصدى في بلدانها، والمتشبع بمشاكل وتحديات مجتمعه، بغض النظر عن المواقف السياسية والأيديولوجية التي لا مفر منها.
خلاصة القول إذن أن على الجامعة اليوم أن تحضر طلبتها للمهن التقليدية، ولكنها إلى جانب ذلك يجب أن تهيئهم لمهن المستقبل، كما على الجامعة أن تؤسس للبحث العلمي الذي من شأنه ان يرجع بالنفع على مجتمعاتها، بدءا بتحدي كتابة البحوث باللغة التي تتقنها الفئة التي ستطلع عليها.