أعود بذاكرتي إلى الوراء، ثلث قرن تحديدا، وأقلب يومياتي كطالب في الجامعة الأردنية، فينتابني إحساس عميق بالكآبة، لكأني أتحدث عن زمن آخر أو عن حياة أخرى على كوكب آخر. يومها، كانت الجامعة لمّا تزل تحتفظ بكينونتها المستقلة بعد، برغم قسوة الأوضاع العامة في البلاد، حيث لم تكن غبار الأحداث في مطلع سبعينيات القرن الفائت قد هدأت بعد، وكان المناضلون من مختلف التيارات – ما عدا التيار الإسلامي – موزعين السجون المختلفة، وتحديدا سجن الجفر الصحراوي، سيء الصيت. كنا في ذروة الحماسة السياسية، نوزع الجغرافيا والديمغرافيا على تيارات الفكر والسياسة، فالهواري والخزاعلة والنعيمات، يصطفون في لائحة واحدة مع حمد الله والتميمي وعبد الهادي، في الحملات الانتخابية المحتدمة على رئاسة "الاتحاد العام لطلبة الجامعة الأردنية" أو على "الجمعيات الطلابية" بعد حل الاتحاد، والمفارقة أن اللوائح ذاتها، عرضت ذات يوم على محكمة أمن الدولة، ونال كل من كان على متنها، نصيبه العادل ومن دون تمييز، من أحكامها القاسية. كنا يساريين وقوميين في مواجهة دائمة مع "التيار الإخواني" المؤتلف مع "تيار السلطة" كما كنا نسميه آنذاك، ويومها كانت رئاسة الجامعة من نصيب أحد أكاديميي الإخوان المسلمين البارزين، الذي حاول فرض منطقة الخاص على العلاقة بين الجنسين، ومواعيد فتح وإغلاق منازل الطلبة والطالبات، وتقاليد الصوم والإفطار في رمضان، من دون نجاحات جدية تذكر. كنا نختلف ونتفق، نفترق ونتحد، من كل المنابت والأصول، وفقا لحسابات السياسة واعتبارات والإيديولوجيا، لم نكن نتشاجر "حول فتاة" ولم نشهر "قنواتنا" في حروبنا داحس والغبراء القبلية التي تقول التقارير أن ثلث طلبة الجامعات اندرجوا فيها بهذا القدر أو ذاك في السنوات الأخيرة. أما في الرياضة والأنشطة العامة، فقد كنا نتوزع على الكليات، لا على الوحدات والفيصلي، وقد ذكرني الأخ جميل أبو بكر بهتاف كنا نكرره دوما في المباريات: "يا تجارة وينك وينك..تست تيوب يخلع عينك"، وقد عدّ هذا الهتاف من أقسى ما قيل فيما بيننا، بخلاف حال الهتافات والشتائم اليوم، التي لم تبق خطا أحمر إلا واجتازته، ولم تبق جزارا كشارون وباراك إلا واستدعته للقصاص من الآخر، الشريك في الوطن والدين والأمة والهوية. وأتساءل كيف أنقلب حال جامعاتنا على هذا النحو: خواء يشكو منه الجميع، ورعب مقيم في نفوس الطلبة والهيئات التدريسية، لم تفلح حتى نداءات الملك وضمانته الشخصية في تبديده،...لا أدري كيف بلغ التفسخ حد "شغب الجامعات"، وكيف انتشرت مظاهر الأسلمة والتدين حد تهديد التعددية السياسية والفكرية التي طالما ميّزت الحركة الطلابية الأردنية، ناهيك بالطبع عن تبدل المواقع والمواقف والتحالفات، فالإسلاميون حلفاء "تيار السلطة" باتوا اليوم خصمه الأول، واليساريون أو من تبقى منهم، يحتلون المواقع القديمة لمجادليهم من الإسلاميين، فسبحان مبدّل الأحوال. ما يجري في جامعاتنا، هو ثمرة نهج "الأمن أولا، والأمن فوق كل اعتبار" في التعيينات والأنشطة اللامنهجية وتشكيل "العمادات" إلى غير ما هنالك، وهو ثمرة لسياسات الاستثناء والكوتات المعتمدة للقبول في الجامعات، وهي السياسات التي لم تجلب لجامعاتنا أمنا، بدلالة مشاجرات طلبتنا التي لا تنتهي، ولم تحدث النقلة المشتهاة في مستواها العلمي والأكاديمي، ولم يترتب عليها سوى تعميم الخواء وتعميق الإحساس بالتفاوت والتمييز لدى أجيال متعاقبة من الشباب، فهل نخرج من هذه الحلقة الشريرة، متى وكيف؟!.