تخيل معي لثوان فقط ذلك المشهد الكلاسيكي المعتاد لطلاب يقوم معلمهم باختبارهم، ثم يقوم بتصحيح الاختبارات بنفسه وإعطائهم درجات، ولست هنا في هذا المقال لأحدّثك عما آلت إليه عملية التعليم بصفة عامة في مجتمعنا، بل لأُنبه على كون النظام التعليمي ليس له زر أحمر أسطوري موضوع داخل صندوق أسود تائه في بحر الظلمات وما إن وجده أحدهم وضغط عليه ضغطة واحدة حتى انصلح النظام التعليمي في لحظة، ولكن هي عدة عناصر متشابكة ومترابطة ذات أوزان مختلفة من حيث التأثير في عملية التعليم. ومدى تقدم وجودة العملية التعليمية يعكس مدى تطوير هذه العناصر من مدرس ومنهج ونظام وموارد وبيئة وغيرها، ولو أن عنصر “المدرس” يعتبر الأكبر وزنًا على الإطلاق من حيث التأثير في مدى نجاح أو فشل عملية التعليم مقارنة ببقية العوامل.
لا شك أن عملية التقييم هي جزء أساسي وركن ركين في العملية التعليمية لقياس مدى تحقيقها لأهدافها، وإذا عدنا للمشهد الذي تخيلناه في البداية، ولو افترضنا أن طريقة التقييم التقليدية تلك تحقق نجاحًا وذات جدوى –هذا مجرد افتراض- أليس علينا إذا وجدنا طريقة أفضل وتحقق نجاحًا أكثر وذات أثر أكبر من حيث قياس وتحقيق أهداف العملية التعليمية أن نتَّبِعها؟ بلى، بل وعلينا أن نبحث ونتلمّس تلك الطرق المختلفة قائلين لأنفسنا، لعل تلك الطريقة أفضل، ولعل الطريقة التي نطبقها قليلة الفائدة أو عديمة الفائدة –هذا إن كان لدينا من الجرأة ما نواجه به أنفسنا- ليكون هذا سبيلًا لقبول وتطبيق طرق جديدة أفضل مع طلابنا.
جميعنا يعرف هذه الكلمة MOOC والتي هي اختصار لعبارة Massive Open Online Courses ومنصة كورسيرا ببساطة نموذج لها بل تعتبر على رأسها، وستجدون هنا في تعليم جديد مقالات كثيرة عن كورسيرا وما تقدمه وكيفية استخدامها، ولكننا هنا بصدد الحديث عن تفرّدها في طريقة تقييم الطلاب. بعد أن يقوم الطلاب بالالتحاق أو التسجيل في إحدى الدورات، تُحدد مواعيد معينة لعرض المحاضرات المقسمة على أسابيع، وفي نهاية كل أسبوع هناك اختبار للتقييم إضافة إلى اختبار نهاية الدورة، وذلك يختلف حسب نوع المادة العلمية أو محتوى الدورة المُقدمة. كورسيرا لم تتبع في التقييم الطريقة الكلاسيكية والتي تكمن في أن يقوم الدارس أو الطالب بحل الاختبار أو الاختبارات ثم يعمل المحاضر على مراجعتها ومنحه درجة معينة حسب إجاباته. وتجدر الإشارة هنا أن الإبداع في عملية التعلم تظل مستمرة حتى بعد إنهاء الاختبار، حيث يكون على كل طالب مراجعة اختبارات 3 طلاب آخرين على الأقل، وفي بعض الدورات تكون 5 على الأقل، ويكون متاحا لكل طالب اختيار درجة معينة في تقييمه لإجابات زملائه، ويكون لزامًا عليه في بعض الدورات أن يكتب تعليقه أو ملاحظته على الإجابة. هذه الملاحظات موجّهة للموقع أو المحاضر، كما يكون متاحًا له أيضًا كتابة تعليقات أو ملاحظات للطالب الذي يراجع اختباره.
هذه الطريقة الإبداعية الفريدة من نوعها، تتيح لكل طالب الاطلاع على إجابات زملائه وفي ذلك فائدة كبيرة، حيث أنه سيتعلّم من إجابات زملائه فيكتسب أفكارا ويتعرف على معلومات أخرى غير التي لديه. ومن زاوية أخرى، فإن هذا الطالب بجانب تعلّمه من إجابات وأفكار زملائه فهو يقوم بتقيم ومراجعة إجاباتهم ومنحهم درجة معينة وفي هذا قدر كبير من الثقة التي يكتسبها الطالب في كونه يراجع ويقيّم إجابات الآخرين، ما يمنحه قدرا كبيرا من المسؤولية الأخلاقية التي تجعله بطريقة غير مباشرة يتحرّى الأمانة في التقييم، وهذا ينسف نظرية المنافسة التقليدية العقيمة التي تجعل كل طالب في صراع وتنافس مع الآخرين لينجح هو وليذهب باقي الطلاب إلى جحيم الفشل، ويستبدلها بنظرية أكثر توافقًا مع الهدف الأسمى من عملية التعلّم، لا تجعل الطالب منافسًا لزميله بل متعاونًا معه ومساعدًا له عن طريق إعطائه ملاحظات وتعليقات وتعديلات واقتراحات بناء على إجاباته. فيكون الجميع قد تعلّموا أكثر وحصلوا على أفكار أكثر ليدركوا ما لم يكن ليدركوه من أفكار ومعلومات، وفي نفس الوقت منحهم قدرا من الثقة والمسؤولية الاجتماعية والتعليمية تجاه بقية الزملاء في تقييمهم ومساعدتهم. وما على المحاضر والمنصة في المقام الأخير إلا إدارة هذه العملية الرائعة بنجاح ليخرج الجميع فائزا.
هذا في عالم تعليمي افتراضي عبر الإنترنت حيث الجميع خلف الشاشات، فما بالك بعالم تعليمي واقعي في الفصول الدراسية والجامعات، ستكون حينها النتيجة أكثر روعة والفائدة التعليمية والاجتماعية أعظم. أتمنى أن يكون هناك مُعلم سواء أكان مُدرسا في مدرسة أو مُحاضرا في جامعة، قد وجد مقالي هذا بالصدفة بينما يبحث عن شيء ما، ويكون لديه قدر من الإيجابية والجرأة ليطبّق هذه الطريقة في تقييم طلابه في أول اختبار قادم لهم، لعلّي أساعدك قليلًا في التطبيق في الصف الدراسي وأنت بالطبع أكثر قدرة مني على ذلك. و أقترح أن تُعرّف الطلاب أولًا بالطريقة التي ستتبعها معهم في التقييم، ثم بعد إنهاء الاختبار تُقسّم الصف أو قاعة الدرس إلى مجموعات، بحيث يكون عدد الطلاب في المجموعة الواحدة يساوي عدد المجموعات ما أمكن ذلك، فيقوم كل طالب في مجموعة بتقييم إجابات طلاب مجموعة أخرى وهكذا، ويكون متاحًا لهم كتابة ملاحظات أو تعليقات لزملائهم. سترى بنفسك النتيجة وتُحسّن الطريقة لتكون أكثر إبداعًا وفائدة لطلابك، فهم يستحقون منك البذل والإبداع.
طلابك نجوم مضيئة على الأرض تحتاج لمن يساعدها على الانطلاق للسماء لتضيء هذا العالم، وأنت أهل لهذه الرسالة.