شاهدت في الآونة الأخيرة مجموعة مقالات تحمل عناوين بمعاني مثل “كيف يمكن أن تفيدك الفلسفة؟” تُركز على النتائج العالية التي يحرزها طلاب الفلسفة في الاختبارات المُوحدة، وقابلية تسويق المهارات الفلسفية، وإمكانية الكسب المثيرة للإعجاب للخريجين الذين تخصصوا في مجال الفلسفة.
شاهدت كذلك عبارات ترويجية لنُصح من يرغب في النجاح في الأعمال التجارية بدراسة الفلسفة بدلًا من ماجستير إدارة الأعمال! وتعجبت كثيرًا من الأمر، فالتقدم في الحياة المهنية والنجاح التجاري هي أخر الفوائد التي يُمكن أن يقدمها لك علم الفلسفة.
أثناء دراستي الجامعية، لم أكن متيقنة من معرفة توجهاتي المستقبلية، وأتذكر جيدًا هذا الاقتباس لأحد دارسي علم الفلسفة على الجانب الآخر من العالم ويُدعى “أليكس بوزدنياكوف” والذي ذكر فيه أن: “أمتلك تلك الجملة الغريبة للرد على تساؤلات الناس عن سبب دراستي لعلم الفلسفة، فأخبرتهم بأنني أريد أن أصبح إنسان مُحترف!”
عندما بدأت في عقد ورش عمل للأطفال في المدارس الابتدائية سُرعان ما لاحظت قدرتهم على طرح تساؤلات فلسفية في سن مبكرة. هُم بارعين في اللعب بالأفكار وبناء الحجج، لديهم تساؤلات غير منتهية حول العديد من الأمور مثل القيم (ما هو أكثر الأشياء قيمة في العالم؟) والميتافيزيقا (هل الأرض مجرد مصادفة؟) واللغات (كيف تعلمنا الكلام، والإنسان البدائي لم يكن قادرًا على نطق سوى بعض كلمات غير مفهومة مثل أوه أوه؟) وعلم المعرفة (إذا كنا نستطيع الحُلم بأننا نحلم، كيف يُمكننا معرفة إذا كنا نحلم بحق؟).
في المجموعات الأقل عددًا ناقشوا سويًا الذكاء الاصطناعي، والأخلاقيات البيئية، والتواصل ما بين الأوساط والأصالة في الفن، وتفكّروا في وجود الإرادة الحُرة وحدود المعرفة وإمكانية حدوث العدالة، وعدد لا يُحصى من المشاكل الأُخرى من تاريخ التفكير الفلسفي. من خلال التساؤل المُستمر والتحدي وتقييم الأفكار استطاع الأطفال معرفة لماذا تفشل بعض الحجج، بينما تستطيع الأخرى الثبات لدعم وجهة النظر.
دراسة الفلسفة تزرع الشك دون عناء، والثقة دون غطرسة. لقد شاهدت الأطفال يتطورون لكي يصبحوا أكثر عقلانية، متشككين، مُنفتحين، ولديهم القدرة على التفاعل بطرق عقلانية وتعاونية، أخبرني أحد الصغار البالغ من العُمر 10 سنوات فقط “لقد بدأت في حل مشاكلي باستخدام الفلسفة، وهي أفضل بكثير من العُنف أو أي طريقة أخرى”.
منذ أكثر من 400 عام طرح الكاتب الفرنسي “ميشيل دي مونتين” السؤال التالي
“بما أن الفلسفة هي الفن الذي يُعلمنا كيف نعيش، وبما أن الأطفال بحاجة لتعلمها بقدر احتياجنا في أي سن آخر، فلماذا لا نقوم بإرشادهم إليها؟”
نحن بحاجة ماسة لطرح هذا السؤال على أنفسنا كل يوم.
المكانة المركزية لنظرية المعرفة في شهادة البكالوريا الدولية (شهادة الثانوية المُعترف بها عالميًا) تعكس التقدير العالمي لأهمية الفلسفة كنظام يدعم جميع التخصصات الأكاديمية الأخرى. هُناك حركة دولية متزايدة تدعو الأطفال الصغار لتعلم الفلسفة في المدارس الابتدائية في الولايات المُتحدة والمملكة المُتحدة، وأماكن أخرى، ليس من ضمنها أستراليا التي تتخلف عن هذا الركب.
على الرُغم من توفر ملامح الفلسفة في المناهج الدراسية في السنوات المُتقدمة في أغلب الولايات الأسترالية، إلا أن عدد قليل جدًا من المدارس الابتدائية تُكرس وقتها لتدريس الفلسفة أو التفكير النقدي والإبداعي.
تطبيق أسلوب التحقيقات أو التساؤلات الفلسفية في المدارس الابتدائية يُمكن أن يجعل التعليم أكثر فائدة وفاعلية للطلاب، ومن المؤكد أنه يعزز مهارة تطوير الحجج المدرسة وقدرات التفكير العُليا، هذه المهارات التي تكمن وراء عملية التعلم في مُعظم المجالات الأخرى بما في ذلك (محو الأمية والحساب) والتي تُمثل ضرورة كذلك في فهم مسؤولية المشاركة المدنية.
من خلال وضع الأطفال على هذا الطريق -طريق التساؤل الفلسفي- في وقت مبكر من الحياة، فإننا بذلك نمنحهم هدايا لا يُمكنهم الاستغناء عنها مثل الوعي بأبعاد الحياة الأخلاقية والجمالية والسياسية، والقدرة على التعبير عن الأفكار بوضوح وتقييمها بأمانة، والثقة لممارسة الحُكم المستقل والتصحيح الذاتي، والأهم من ذلك هو إن إدخال الحوار الفلسفي في سن مُبكر من شأنه أن يُعزز الاحترام الأكبر لثقافة الاختلاف، فضلًا عن فهم حاسم لكيفية استخدام العقل حل النزاعات.
كل هذه الفوائد يُمكن أن تتوفر لطلاب المرحلة الابتدائية إذا ما تمكن اختصاصيو التوعية في الفلسفة في استراليا من الحصول على التمويل الكافي والدعم المؤسسي، ويُقدم هذا الدعم من قبل منظمات خيرية مثل مؤسسة الفلسفة في المملكة المُتحدة ومؤسسة سكوير في الولايات المُتحدة الأمريكية، والتي تقود الطريق لدمج الفلسفة في المناهج الدراسية لطلاب المرحلة الابتدائية، ما لم يتم توفير التمويل الكافي لتزويد المعلمين بالتدريبات اللازمة، سيضطر أطفالنا للتخلي عن المكافآت الغنية التي تعدهم بها دراسة الفلسفة. وفي النهاية، إليكم الأمر الأولى بالتفكير في يوم الفلسفة العالمي، في حين أن التحصيل الدراسي والتقدم الوظيفي والنجاح المالي، أمور هامة لكل فرد، لكنها تُمثل القشور، فأهمية دراسة الفلسفة الحقيقية تكمن في ما تقدمه من مفاهيم الحرية ووضح الفكر، وهذه هي الصفات التي يسعى إليها جميع أطفالنا بغض النظر عن ما يرغبون في أن يصبحوا عليه عندما يكبرون.