في نهاية هذا اليوم الدراسي كانت صورة واحدة هي الثابتة في رأسي، طفلتي العزيزة التي بكت أمامي لأن “ماما مش عايزة تديني فلوس”، وكان علي أن أشرح لطفلة الست سنوات، لماذا عليها أن لا تشترك في حفل نهاية السنة وأن تشارك زملاءها الرقص على أنغام أغنية الحفل، وأن تقف في صف بعيد لأن والدتها لم تدفع رسوم الاحتفال.
طفلتي الأخرى من فصل مختلف، تلك التي لن تشارك هي الأخرى، أشارت إلى زملائها أثناء تدريبهم على أغنية الحفل، وقالت: “هؤلاء زملائي؟”، لم تزد عن هذه الجملة، ربما كانت تسألني بشكل غير مباشر، لماذا لا تقف مع رفاقها؟.
أنا لا أتحدث عن أطفال فقيرة لا يستطيعون تحمل أموال احتفال، أنا أتحدث عن نظام مدرسي يطالبك بدفع أقساط بهذا الحجم، ثم تكتشف أن هذه الأقساط لا تشمل احتفال نهاية العام، وأن الاحتفال بإنجاز الطفل يحتاج لدفع الأموال!.
وحيث أن عددًا من الأهل لسبب أو آخر سيمتنع عن الاشتراك والدفع والاستمرار في الدفع حتى يوفّر زي الاحتفال المناسب، فسأجد ببساطة موقف مثل الذي رأيته اليوم.
في فصلي لم يعرف أطفالي من منهم سيذهب إلى الحفل ومن منهم لن يفعل، مازلت أنا كمعلمتهم لم أستوعب الأمر، ولا أجد طريقة ما لإبلاغهم بها، إلا بتأجيل الأمر حيث إنهم لن يعرفوا في نهاية الأمر، أحاول أن أجد طريقة ما لتعويض ذلك، أفكر فيم سأفعل.
أنا معلمة، اخترت هذا المجال بكامل رغبتي، أحاول قدر المستطاع أن أعرف عن هذا الطفل أكثر وأكثر، لن أبالغ إن قلت إني أحب طفلك مثلك، لكنني أقف مكتوفة اليدين، أمام نظام مدرسي يحدد أن الطفل عليه أن يتحرك نصف ساعة فقط خلال خمس ساعات، وأن علي أن أجيب لماذا في بعض الأحيان، النصف ساعة يتم إلغاؤها، ففي حالة الضغط لا تلغى الصفحات، ولا يلغى المنهج، بل تلغى فترة اللعب!.
لا داعي لأن أذكرك أنني أتحدث عن نظام أفضل بنسبة 70% من أغلب المدارس المتاحة لطفلك في العالم العربي، وأن عليك حتى تضمن مقعدًا لطفلك هنا أن تدفع كل ما تملك، ودعني أذّكرك أن حتى إن توفر لديك هذا المبلغ من المال، فما زالت المشكلة قائمة.
أحد أطفالي يعاني من فرط الحركة، وبعض صعوبات الكتابة، لم أُنهِ تشخيصه بدقة؛ لأني لا أملك رفاهية الوقت، لذلك أخبرت والدته علّها تجد طريقة ما لتشخيصه.
رفاهيات كثيرة كذلك لا أملكها..
لا أملك رفاهية أن أوقف المنهج أمام هذا الطفل، وأن أمنع عنه الكم المهول من الكتابة ومواكبة المعلومات التي تتكاثر يومًا بعد يوم، فبعض الأهالي على الباب الآخر منتظرون أن يفخروا بذلك الكم الذي تعلمه أولادهم، ولن يأبه أحد للطفل الذي بدأ بضرب أصدقاءه لأنه لا يعرف كيف يتفوق مثلهم!.
لا أملك رفاهية أن أمتنع عن مطالبته بحل ما كتب في خطة التدريس أو أن أتوقف عن إزعاجه بأن عليه أن يكمل الكتابة في الوقت المطلوب، وأن أجد سؤاله عن كيف أكتبها، سؤالاً ساذجًا!.
حين أعود، وأتخلص من ذلك الحمل الغريب، أقاوم رغبتي في البكاء، وأفكر كم هدمت داخله حين سألته بعبوس، كيف لا تعرف أن تكتبها؟.
أثناء كتابتنا لثلاث صفحات في أحد الأيام، بكى أحد أطفالي ونظر إلي قائلًا، «تعبت بقى، إيدي وجعتني»، ولم أملك أن أخبره أن يغلق الكتاب؛ لأني يجب أن أنهي الصفحات شئت أم أبيت.
أطفالي متمردون، ذاقوا حريتهم مرةً أو اثنتين، لذلك يقال إني فشلت في السيطرة عليهم، لأنهم لا يخافون مني، حين يرونني لا يركضون إلى مقاعدهم، بل في الاتجاه إلي. أفشل في أن يجلسوا على مقاعدهم، وأفكر ما السيئ في أن يختاروا الطريقة المناسبة للجلوس؟، ولماذا يعد سوء تهذيب أن يحاولوا الإمساك بأدواتي وتقليدي؟، أنا أملك متسعًا من الحرية لأن أتحايل على المنهج والطرق المتبعة، ببذل جهد أكثر قليلًا وبعض الأموال أحاول أن أعطيهم حقهم في اللعب والتعلم بطرق ممتعة، أنجح مرةً وأخفق مرة، ولا أدري إلى أين يقودني ذلك. ما زلت أحمل خبرتي القليلة فوق ظهري كثقل، بينما أحاول محاربة نظام كامل، وأن أحتضن أفراحهم وأحزانهم، وأن أبتلع خيباتي الخاصة ومشاكلي التي تقف في طريقي بعض الأحيان.
أستيقظ كل يوم، راغبةً أن أمنح كل ما لدي لهؤلاء الأطفال، ألمح لمعة أعينهم بينما يتابعون المعلومات الجديدة، فرحتهم حين يتعرفون على بعض المعلومات القديمة. تلحّ عليّ ذكرى قديمة لمكتبة الإسكندرية، أشرح لمجموعة أطفال كيف تعمل أجهزة الجسم كاملةً في عشر دقائق بمتعة وانبهار. لا أذكر أني احتجت أن أخبرهم أن يصمتوا ليتابعوا حديثي، ولم أحتج لرفع صوتي بينما أشرح في الهواء الطلق وسط مجموعات كبيرة.
لماذا إذًا وسط هذه الغرفة المجهزة، أخفق في أن يتعلم البعض كتابة أحد الأرقام وتذكر شكله فيما بعد؟، كيف لي أن أقنع ولية الأمر أن طفلها ليس غبيًا لأنه استغرق العام الدراسي ليفهم الأرقام، وأن الأمر لا يتعلق به، بل بي وبعدد الصفحات المطالبة بكتابتها دون أن يفهم الطفل ماهية الرقم الذي نتحدث عنه.
كل يوم، أنظر إلى وجوههم التي تعلوها البهجة، البهجة التي تختفي أمام الورق. أنظر جيدًا للضحك الذي يثير غيظي حين أضطر لمواكبة الدرس، ولنظرة الاستغراب والخوف حين أتحدث بنبرة صارمة، لماذا عليّ أن أقطع لحظات اللعب والبهجة؟.
ولماذا عليّ أن أبرر لماذا لا نلعب؟، ولماذا نختنق في هذه الغرفة الصغيرة، لعدة ساعات؟
طفلك بحاجة إلى منهج مرن مخصص له فقط، يناسب شخصه حيث يمكنه تعلم كل ما يرغب أن يتعلمه لا مايفترض أن يتعلمه، وأن يتعلمه بالطريقة التي يرغب بها، ويستغرق كل الوقت اللازم لذلك، فإن كان طفلك يتعلم معلومة ما في أسبوعين فهو من حقه، وليس من حقي أن أجبره على تعلمها في يومين لأن المنهج المصمم يرغب في ذلك. أو أن تجد ورقة التقييم تحمل لك أن طفلك منخفض المستوى لأنه لم يتم المطلوب في الوقت المناسب.
يومًا بعد يوم، أجدني أنضم للنظام، يعلو صوتي، بهجتي تخفت، أصرخ!، تسألني طفلتي: هل هناك مفاجآت اليوم؟ وتبتئس لأني لم أحضر مفاجأة. المفاجأة التي تتمثل في عجين منزلي، أو بعض الفشار، أو لعبة جديدة صنعتها لهم.
بالأمس حاولت أن أغير الضغط بإضافة الألوان، طفلتي المميزة أحبت أن تلعب باللون وتضعه على يديها، صرخت بها!.
عاملة النظافة بالخارج تنظر إليّ شذرًا، وزميلتي لا تفهم ماذا أفعل، وطفلتي تنظر إليّ بإباء ولصراخي، طفلتي القيادية التي لن تبكي، لكنها تنظر إليّ بينما أواصل الصراخ، بصمت محاولةَ رفع شفتيها كي لا تبكي. امرأة قوية، قيادية، تقود الفصل بأكمله، وذكية.
طفلة لن تبكي، وأنا كسرت هذه الطفلة، بصراخ لا معنى له؛ لأني لا أريد أن أسمع تعليقات غير مناسبة ممن حولي.
كل دقيقة أجد قصة جديدة، أقاوم رغبتي في البكاء بعد كل مرة أصرخ بهم لأسباب واهية، أقاوم الانهيار والهروب من أعينهم حين أخبرهم بأخبار لا تعجبهم، أحاول إخبار ولي الأمر بطريقة لطيفة أن العيب ليس في طفلها ولن يكون أبدًا، من نحن كي نُحدد مستوى طفل بناءً على مستوى الآخرين؟، كيف لي أن أضع نظامًا يصلح لأن يقيس كل هذا الكم من الاختلاف؟.
بالنسبة لي لم أجد بعد إجابة أسئلتي، إلا في الأماكن التي عملت بها بشكل تطوعي وغير نظامي لا يحتوي على أوراق عمل وأقلام، فربما لديك كولي أمر إجابة مختلفة عن إجاباتي.