يأتي الأب من يوم عمل طويل، وفي بالِه توقعاتٌ عدّة: الباب سيكون مفتوحاً كالعادة بانتظاره في هذا الوقت، تماماً كما طعام الغذاء الساخن اللذيذ وبسمة الزوجة الهادئة، لكنّ اليوم مختلف، لم يجد أياً منها بانتظاره وهو يعلم السبب: امتحان العلوم، غداً امتحان العلوم لولده. يأخذ نفَساً عميقاً، ويدخل لابِساً درعاً نفسياً يَقِيه كلّ معارك الدرس المتوقعة. الأم في حالة توتر شديد، تعلو نبرتُها سعياً منها لتحفيظ ولدها ذاك المصطلح العلمي”الغريب”، حتى أنها لم تلتفت لدخول الأب. حالياً لا يهمّها سوى إنهاء هذه المعاناة، قبل أن تتلفَ آخر خليةٍ عصبيةٍ فيها.
لعل هذا المشهد ليس غريباً عنك، جلسة درس روتينية تقلب كل المشهد الطبيعي في حياتك حيث يشعر المرء أنّ المنزل أصبح غرفة تحقيق واستجواب بين من يدرّس (الأم/الأب/الأخ الأكبر…) وبين الأولاد، فيشعر المرء أنّ أجواء الألفة والعطف والدفء، التي من المفترض أن يوفرها المنزل والعائلة تُدفن تحت ضغط التدريس وهمّ مستقبل الأولاد ونجاحهم. في هذا المشهد، تظهر “المعاناة الثلاثية” كما أحب تسميتها:
- الولد يعاني.
- المدرّس يعاني.
- والحاضر في هذه الجلسة يعاني.
طبعاً ليس ذنب الأهل أنّ الدرس مملّ ومأساوي لهذه الدرجة، فالحل موجود، و لا يتطلب منك إلا أخذ زمام المبادرة وهناك عدة طُرُق لمساعدة ولدك في الدراسة. في هذا المقال، سنتعرف على واحدة منها تؤدي إلى:
- تثبيت معلومة في ذاكرة الأولاد بسرعة.
- ربط الأولاد بالعلوم بطريقة محببة لهم.
- خلق تفاعل إيجابي بينك وبينهم (يعني تخفيف التوتر والضغط وخلق جو من الانسجام في المنزل).
كل ذلك في دقائق قليلة، ودون جهد كبير، وبطريقة ممتعة لك وللأولاد، هيا بنا إذن…
التجربة المثيرة
في الآونة الأخيرة، راج بشكل كبير الحديث عن فعالية وأهمية استخدام الفيديو كوسيلة لإيصال المعلومات للتلاميذ. انقدحَت حينها في ذهني شرارةُ المهندس الذي يحبّ تجربة أي فكرة يُحتمل صحتها. إحدى التجارب التي مررتُ بها مؤخّراً كانت حول مقتطف فيديو، موضوعه عن عالم الحيوان، أسماه أحدهم: “قد يكون أعظم مشهد في تاريخ الوثائقيات“. فأصبحَ في هذه الفترة حقل تجاربي المثير.
إليك الفيديو:
شاركت في هذه التجربة إحدى الأمهات مع ابنتها ذات العشر أعوام.
التجربة باختصار:
- في اليوم الأول، شاهدت الطفلة الفيديو أعلاه مع والدتها حيث ساعدتها الأمُّ في التعرف على سبب عجز الأفعى عن تحديد مكان الحرباء من أول مرة، وهو أنّ بصر الأفعى ضعيف.
- بعد مشاهدة الفيديو، قمنا بعملية “تشويش علمي” على ذهن الطفلة -إن صحّ التعبير- أي عرض معلومات أخرى عليها غير تلك الموجودة في الفيديو لكن ضمن نفس الموضوع، فقرأت الطفلة عن الأفعى من موسوعة علميّة:
- بعد أسبوع كامل، أعادت الطفلة قراءة المعلومات من الموسوعة لتتذكرها من جديد، لكن دون أن تعيد مشاهدة الفيديو. وبعد قراءة المعلومات، كتبت الطفلة كل ما تعرفه عن الأفعى بعد أن طلبنا منها ذلك.
النتيجة، اكتشفوها بنفسكم في هذه الصورة…
لقد ذكرت الطفلة كلَّ المعلومات التي قرأتها لتوّها من الموسوعة، لكنها لم تنسَ فكرة ضعف بصر الأفعى التي مرّت معها في الفيديو، برغم مرور أسبوع كامل على مشاهدتها له.
لا أدري إن عشت تجربة مماثلة من قبل… حيث يتوقع المرء شيئاً ما ثم تأتي النتيجة فوق التوقعات: لقد علقت المعلومة في ذاكرتها بتلك السرعة.
كيف حصل ذلك مع الطفلة؟
نتائج التجارب العلمية تصرّح بفائدة الفيديو في التعلم وتثبيت المعلومة، هذه التجارب أنتجت نماذج تعليمية جديدة كالدرس المقلوب وغيرها… فلنُشرِّح الفيديو علمياً لنرى ماذا يحصل معنا أثناء مشاهدته:
- مشاهدة أيّ فيديو عموماً تشترك فيها حاسّتا السمع والبصر، أما إشراك أكثر من حاسة في أيّ عمل فهو يسرّع عملية التعلم والحفظ ويزيد من تفاعل المتعلمين.
- هذا الفيديو عن الأفعى يسرد قصة يدخل فيها عنصر التشويق والإثارة، ينتج عنهما تفاعُل عاطفي مع الأحداث يحفّز عملية التعلم والحفظ.
- كما أنّ من يشاهد مجريات القصة يبدأ بالتفاعل والارتباط بشخصياتها كأن يضع نفسه مكانها ويفكّر في الاحتمالات اللاحقة للمجريات، (ألم تشعر(ي) بنوع من التفاعل مع تلك الحرباء في القصة؟ ولعلك تصورت نفسك مكانها وتساءلت ما يمكنك فعله لو وقعت في ذات الورطة. أعلم أنها حرباء، لكن هذا ما حصل معي على الأقل). هذه السلسلة من عملية التفكير حول ذات الموضوع تساعد أيضاً في الحفظ والتعلم.
- في القصة المصورة والمشوقة، يركّز المشاهِد على الأحداث والتفاصيل، فالتركيز الواعي هو من أهمّ العوامل في حفظ المعلومات واسترجاعها من الذاكرة لاحقاً.
إذن، الآن أصبح أحدُ الحلول بين يديك: إنه الفيديو.
فكرة بديهية أليس كذلك؟ من عجائبنا نحن البشر أنّ كثيراً من الحلول لمشاكلنا تكمن في البديهيات، بينما نبحث عنها في التعقيدات. فترى، لماذا لا يستخدم أولياء الأمور الطُرُق الجذابة لتعليم الأفكار العلمية؟ ولماذا تمرّ حقائق علمية عجيبة ومثيرة دون أن نعلّق عليها أو نفتح نقاشاً مع أولادنا حولها؟ فنساعدهم ليبحثوا أكثر في الموضوع بشوقٍ وحافزية؟ ألا يستحق أولادنا هذا الاهتمام والتقدير لعقولهم وقدراتهم؟ طبعاً يستحقون. لذلك، يمكننا أن نستغل تلك الفُرَص الصغيرة- وهي ليست قليلة في حياتنا- لتثبيت حقائق علمية مفيدة في أذهان وعقول أولادنا.
كيف نطبّق الفكرة؟
يمكنك اتّباع معادلة بسيطة يمكن تطبيقها في كل مرة:
- اختر فيديو مشوّقا.
- شاركه مع ولدك أو تلميذك.
بهذه البساطة، أقول “بساطة” ولستُ أقول أنّ تطبيق المعادلة أمر هيّن. في الحقيقة، من يقول لك أن عملية التعليم مريحة وهيّنة فهو يخفي عنك حقيقة صعوبتها. لكن، بعد معرفة الاستراتيجيات والطرق الصحيحة، وبعد الاستعداد لأخذ زمام المبادرة، يمكن للمسألة أن تصبح أبسط وأيسر للجميع، حتى لو لم يكن لديك وقت كافٍ… حتى مع عدم امتلاكك معلومات علمية أو مهارة تقديمها أولادك… ليس لديك وقت كثير؟ يمكنك تطبيقها مع الأولاد أثناء مرافقتهم لك في السيارة أو أثناء التحضير لطعام الغذاء أو في نزهة عائلية. ليس لديك المهارات أو الدراسات المساعِدة في هذا المجال؟ ليس بعد الآن، يمكنك تجربة الفيديو أعلاه فوراً، أو تطبيق المعادلة البسيطة، وإليك بعض التوضيحات بخصوصها:
- اختر مقطع فيديو مشوّقا:
شبكة الإنترنت تعجّ بمواقع تعليمية فيها فيديوهات مفيدة ومسلية، يمكنك التعرف على بعضها في مقالات سابقة مثل ” 10 أفضل مواقع تعليمية للأطفال “، الذي يتمّ فيه عرض عدة مواقع تعليمية حديثة مع شرح مقتضب عن كل واحدٍ منها. هذه بعض الملاحظات التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند اختيار الفيديو: طبعاً يجب أن يكون ممتعاً، والأفضل أن يحكي قصة مشوقة، لإدخال عنصر التفاعل العاطفي. يمكنك اختياره حول فكرة علمية مناسبة لاهتمامات طفلك وعمرهم أيضا. وليكن الفيديو قصيراً، بأن لا تتجاوز مدته عشر دقائق للواحد.
- شاركه مع ولدك أو تلميذك:
متى؟ أؤكد على مشاهدته خارج أوقات الدراسة، علينا أن نتعلم مع الوقت كيف ندرّس أولادنا دون أن يشعروا، أي خارج الأوقات التي يعتبرونها “جلسة دراسية”، لماذا؟ هناك سببان على الأقل:
– تجربتهم المُرّة والمملّة مع الدراسة أنتجت تمثلات تربط لهم الدراسة بالملل بشكل تلقائي، لهذا تجدهم يهربون ويؤخرون تلك الجلسة الدراسية ويتذرعون بكل شيء، فيعطشون ويجوعون حينها…
– نظرية التفكير اللاواعي: عندما نفكّر بمسألة ما لوقت طويل دون الوصول إلى حلّ، تقول النظرية أنه من الأفضل تركها ثم نقوم بأنشطة أخرى محببة لنا لتشتيت التركيز لبعض الوقت، كالمشي أو الدردشة أو اللعب… أثناء ذلك يكون دماغنا اللاواعي لا يزال يفكّر في المسألة التي لم يحلّها بعد (مثال على ذلك قصة العالِم نيوتن وسقوط التفاحة الشهيرة). فإذا كان الولد يعاني من صعوبة حفظ أو استيعاب مفهوم علمي، فلن يكون الحل بإلقاء اللوم عليه أو بإطالة وقت الحصة. بدلاً من ذلك، يمكنك إعطاؤه استراحة، وخلالها تقومان بمشاهدة فيديو ممتع حول الموضوع الذي وجد فيه صعوبة.
كيف نشاركه معهم؟
كأمّ أو أب، أنت أكثر شخص في هذا العالم يعرف أولاده، و يعلم الطريقة المثلى التي يتفاعلون فيها مع أي حدث. يمكنك البدء مثلاً بمشاهدة الفيديو بمفردك ومن ثم يعلو صوتك بالقول: “يا لطيف ما هذا الذي يحدث؟” فأولادك حينها سيتأثرون بتفاعلك، لأنك أكثر شخص يؤثر فيهم (قبل سن المراهقة على الأقل). ربما أولادك سيتفاعلون معك بطريقة أخرى أكثر هدوءاً عند قولك: دعوني أُريكم فيديو مشوّقا شاهدته حديثاً. تفاعلك معهم يجب أن يكون بحسب شخصيتك التي اعتادوا عليها، فالصدق ضروري في هذه المسألة (وفي كل شيء طبعاً). الأولاد يعلمون متى تكون مشاعرنا كاذبة و إلا سيتجاهلونك بسهولة وعندها ستكون الفرصة قد ضاعت.
حسناً، ماذا بعد الفيديو؟
الأمر لا يتوقف هنا، فأيّ معلومة يمكن أن تُنسى مع الوقت، وحفظها لا يستمر للأبد بمجرد مشاهدة واحدة. فترسيخها على مدى الزمن يتطلب تطبيق طرق أخرى لاحقة. يمكنك مثلا أن تطلب من أولادك رسم مشهد أو لقطة من الفيديو بعد يومٍ من مشاهدته. وبعدها بيومين، يمكن مشاركة الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي مُرفَقاً بتعليق صغير عمّا تعلمـوه. وبعدها بأسبوع، حاول تطبيق أفكار أخرى. سترون عندها كيف سيتفاعلون مع هذه الأفكار الجديدة، سيبدؤون بفتح باب الأسئلة، وقد يصمتون قليلاً ويسرحون بأفكارهم، قبل أن تعلو شفاههم بسمةٌ لا ندري أيَّ فكرة طفولية عجيبة سبّبتها.
النتيجة؟ الهدوء والانسجام
بعد تجريب الأفكار أعلاه، يمكنك معاينة تغييرات جذرية في طريقة تفاعل أولادك مع دروسهم، ستصبح هذه الأخيرة أكثر متعة بالتأكيد. وستخلق تلك الفيديوهات المفيدة والممتعة تفاعلاً منسجماً بينك وبينهم… ستدخل أيها الأب إلى منزلٍ بابه مفتوحٌ سلفاً لك، وتقابلُك بسمةُ زوجتك، ورائحة الغذاء اللذيذ الذي طلبته. سيركض أولادك نحوك صارخين: “بابا، هل تعلم أنّ الأفعى بصرُها ضعيف، وأحياناً لا يمكنها مشاهدة فريستها إلا بعد أن تتحرك؟” ستبتسمين أيتها الأم حينها وتنظرين إلى الأب قائلةً له: “جربتُ معهم تجربة الفيديو قبل قليل. الآن حان دورك لتُكمل المَهمة.” أنا متحمسٌ كثيراً لمعرفة ما سيحصل معك بعد تطبيق هذه الأفكار.
تحذير: قمتُ بتجربة أخرى منذ مدة قصيرة حول الفيديو ذاته مع طفلٍ يبلغ عامين، وما زال يرهقني باندفاعه الكبير ورغبته بمشاهدة الفيديو من جديد، التجارب الخاطئة توصِل أحياناً إلى عواقب وخيمة.
المصدر : موقع تعليم جديد