ستبدأ رحلتنا الشيّقة مع المهارات والأنشطة اليدوية والحركية، لأنّها كانت الطريقة الأولى في التربية والتعليم عبر التاريخ وحول العالم، وبالطبع لأنّها أقدم من التكنولوجيا، وقد استفادت أجيال كثيرة من هذه الأنشطة وتعلّمت من خلالها في البيت قبل المدرسة.
يرجع ظهور الوسائل التعليمية إلى عصور قديمة منذ خلق الله الإنسان على الأرض، حيث إنّ مظاهر الاتصال من قبيل اللّغة التي تحدّث بها الإنسان، والنقوش الأثرية والرسومات والمجسّمات والصور التي حفرها الإنسان في العصور المختلفة، يمكن اعتبارها أشكالا لوسائل يدوية تعليمية أدّت إلى إيصال رسالة ما إلى متلق آخر بطريقة تتواءم مع مستوى الإنسان الإدراكي والزماني والمكاني عبر العصور.
والمقصود بالمهارات والأنشطة اليدوية والحركية في هذا البحث هو التعلّم باللعب أو الرياضة أو الرسم أو بتصميم الأدوات والأشكال التعليمية بالمواد المتاحة في بيئاتنا من ورق أو بلاستيك أو خشب وغيرها، سواء جلبناها للطلبة في المدرسة أو أخذناهم للواقع المعيش الذي تستخدم فيه.
ويمكنك – عزيزي القارئ – مشاهدة هذين المقطعين المميزين عن المهارات الحركية اليدوية عن طريق تنزيل برنامج Qr code reader ” قارئ رمز الاستجابة السريعة ” على هاتفك المحمول من المتجر، لفهم الفكرة بشكل أكبر أو من المقطعين التاليين:
المقطع الأول:
المقطع الثاني:
لكن إن لم تستطع المشاهدة لسبب أو لآخر فدعني أوضّح لك المحتوى:
فالمقطع ( 1 ) يُظهر كيفية إدماج العمل اليدوي في التّعليم الثانوي في ” أستراليا ” من خلال مشاهدة الطلبة وتنفيذهم لمهام في البناء باستخدام الطين أو الخشب أو الزراعة، مما يجعلهم يلمسون بأنفسهم هذه الخبرات و يتعلمونها بمتعة واندماج.
وهذه صورة من المقطع:
وأمّا المقطع ( 2 ) فيوضح كيفية إدماج طلبة المرحلة الابتدائية و أولياء أمورهم في التعليم والتعلّم عن طريق المهارات الحركية والفك والتركيب والتجريب لكيفية عمل المصباح الكهربائي مثلا في مهرجان تعليمي رائع، وسعادة الجميع وحبّهم للتعلّم ظاهرة بوضوح.
ولنقرأ معا هذه الفقرة وثيقة الصلة بما تقدم:
” فقد كان هناك نقاش دائر حول فجوة الإنجاز في المدارس الأمريكية وتجاهل أهمية الإنجاز إلى حد كبير، وقيل إنّ سببه الأساسي هو عدم الاندماج في التعلّم”.
بين رياض الأطفال و المدرسة الثانوية، يفقد العديد من الطلاب للأسف الحبّ الطبيعي للتعلّم، بل ويتم استبدال هذا الحبّ باللامبالاة والسُّخط، حيث يعاني الطلاب عدم التواصل مع ما يجري تدريسه في الصفّ، ويتخلّفون عن مواكبة التّحصيل التّعليمي، كما ينقطعون عن التّعلّم، ما يُحدث فجوة في المشاركة والاندماج، والتي يكون لها تأثير سلبي أكثر عمقا على الطلبة المتعثرين أكثر من الطلبة المتفوقين “.
ومما سبق، يتّضح أنّ هناك تحديّا قديما جديدا في التعليم والتعلّم في العالم أجمع، وليس في الولايات المتحدة وحدها، ويتابع المقال البحث حول الحلّ الذي نجعل به الطلبة يعودون إلى حبّ التعلّم وبالتالي تحقيق الإنجازات.
يُتَابعُ المَقالُ القَولَ:
” لحسن الحظ فهناك أدوات بسيطة ودلائل تستطيع ترميم تلك الفجوة، تتمثل أساسا في التدريب العملي عن طريق الأنشطة الحركية واليدوية والتي تُشعل حبّ التعلّم وتربط المفاهيم المجردة بالعالم الحقيقي وتحقّق النتائج التعليمية المرجوة “.
ولو عُـدنا للمقطعين المصوّرين السّابقين سنلمس هذه الجملة: ” تشعل حبّ التعلّم “، وفي رأيي فإن هذه هي نفس الفكرة التي نهدف جميعا لتحقيقها، ولاحقا سنرى كيف أنّ الأهل ينقلونها لأبنائهم وبناتهم، كما أنها وسيلتهم لكي يعودوا لهذا النوع من التّعليم القديم الحديث، بل ومستعدون لدفع مبالغ مالية للبرامج التّعليمية التي تنمّي هذه المهارات اليدوية والحركية.
ويكمل المقال بأنّ:
” تعليمات التدريب العملي لديها تاريخ طويل وناجح في العلوم والرياضيات (Basista & Mathews; Bredderman; Haury & Rillero)، وهناك تطلّعات لتدريس العلوم الاجتماعية والتاريخ واللغة الإنجليزية وغيرها من المواد بنفس الأسلوب، فباستخدام التدريب العملي للتربويين سيتم تعزيز مهارات القرن ال21 التي يحتاجها الطلاب لينجحوا، كالتفكير النقديوالتواصل والتعاون والإبداع، والتدريب العملي على الأنشطة، مما سيشجّع حبّ التعلّم مدى الحياة، وتحفيز الطلاب على استكشاف واكتشاف أشياء جديدة “.
وكما قلت آنفا فإنّ هذا الطرح ليس قاصرا على مادة بعينها بل هو أسلوب ينبغي أن تتّبعه المدارس في كل المواد ويكون أسلوب تعليم تتبناه الوزارات من خلال الطرح المصاحب والذي سأوضّحه في الصفحات القليلة القادمة.
وهكذا، نرى أن دراسة الحالة السابقة قد أكدت أن الاستفادة من موارد المجتمع مثل الحرفيين والمتاحف والمحفوظات والوثائق وقادة المجتمع المحلي ستساعد في توسيع وتعزيز تعلّم الطلبة.
وهذا ما أكدّت عليه هذه الدراسة الأمريكية والتي تخيّرتُها انطلاقا من علمي أنّ أمريكا من أكثر الدول استخداما للتكنولوجيا – بعد السويد طبقا لاستبيان ليوناردو ويفرمان ٢٠١٠ – بشكل عام وفي التعليم بشكل خاص، حيث تشير الدراسة إلى أنّ التدريب العملي واليدوي والحركي يساعد على دمج الطلبة في العملية التعليمية، ويزيد حبّهم للتعلّم وبالتالي تحقيق الإنجازات التي تجعل التعليم مشاركا أصيلا في نهضة الأمم والمجتمعات.
ويرى الفيلسوف الصيني ” كونفوشيوس ” أنّ التعلم يتم مع الكلمات التالية: “أسمع وأنسى، وأرى وأعتقد، وأفهم وأنا أفعل” في إشارة إلى التعلّم اليدوي والحركي.
ومن فوائد العمل اليدوي والحركي على التعليم والتعلّم أنّه كما قالت الدراسة الأمريكية السابقة أيضا:
- يطوّر مهارات التفكير الناقد.
- يشجّع على التواصل وبناء المهارات اللغوية.
- يعيد التركيز والاندماج.
- يوفّـر الطريق إلى النجاح للطلاب.
- يعلّم العمل الجماعي.
- يحسّن الخبرة في مجال التدريس.
- يزيد التعليمَ والتعلّمَ متعةً.
- الحفاظ على النتائج الإيجابية.
وفي الاقتباس التالي فإنّ ( رافت RAFT ) قامت بإنجاز استبيان لأعضائها وقد أظهر ما يلي:
- 89 ٪ من المدرسين يقومون باستخدام أنشطة يدوية متنوعة وبشكل واسع في الصفّ
- 99 ٪ وجدوا طلاّبهم مندمجين ويحتفظون بالمعرفة لوقت أطول كنتيجة لخبراتهم اليدوية.
وتبيّن البحوث أنّه إذا أدمج المربون التدريب العملي في التعليم، فسيميلون أكثر للاستمرار في استخدامه عند التعلّم في الفصول الدراسية، نظرا لتأثيره الإيجابي الكبير. (Bridging the Engagement Gap 2013)
ولقد فوجئت قبل عامين عندما رأيت حبّ واندماج طلابي في التعلّم، وكذا سمعت شكر الأهالي لنا عندما قررنا أن نجعلهم يتعلمون في الهواء الطلق في برنامج ” مدرسة بلا جدران ” في المرحلة الابتدائية والتي طبّقناه – أنا وزملائي المعلمين والمعلمات – عندما أخذنا الطلاب خلال ساعات الدراسة إلى معسكر على شاطئ البحر وكانت فكرتنا أن نوصّل للطلبة الخبرات والثقافات المختلفة في اللعب وتصميم الألعاب التقليدية قبل ظهور التكنولوجيا، لذا فقد صمّمنا لهم بعض الألعاب سواء بالعجلات أو الرسم أو الصناديق الورقية أو الحجارة وغيرها، ثم طلبنا منهم أن يصمّموا هم بعض الألعاب المنتشرة في ثقافاتهم المختلفة، أو يشرحوا لنا لعبة يلعبونها في ثقافتهم ونلعبها معا. وأعتقد أننا علّمناهم الكثير عن خبراتنا وثقافاتنا وتعلّمنا منهم كذلك وبطرق مسليّة جعلتنا نلمس ونعلم أن التدريب العملي سواء الحركي أو اليدوي عند التعليم لديه القدرة على رفع مستوى التعلّم واستعادة الدافع لتطوير مهارات القرن ال21، فالطلاب بحاجة إلى أن يصبحوا متعلمين مدى الحياة في الحياة الحقيقية.
وفي العام الماضي ذهبنا إلى أبعد من ذلك، فقد كانت الرحلة في برنامج ” مدرسة بلا جدران ” للمرحلة الثانوية هذه المرة إلى ” تايلاند ” حيث عرّفنا الطلاب حال التعليم الذي يتلقاه اللاجئون والنازحون من البلاد المجاورة جرّاء الزلازل أو الحروب حين يهربون من بلادهم إلى تايلاند، ولمسوا ذلك حين زرنا هؤلاء اللاجئين وتحدّثنا معهم، كما تعلّموا في معسكر الإقامة كذلك فنون الطهو والتزيين والزراعة ورعاية الأفيال المُسنّة ومارسوها بأنفسهم، كما قاموا بممارسة سباقات الجري والرياضات المختلفة وغيرها من المهارات اليدوية والحركية، ولن أحكي عن مدى المتعة والتعلّم والاندماج الذي حدث وكيف أنّ هذه الخبرات لن تنسى عبر الزمن وستطبّق يوما ما.
ولا أنسى كما لن ينسى الطلاب رحلة بلجيكا وفرنسا حين قمنا بدراسة تاريخ وأحداث الحرب العالمية الأولى في أماكن حدوثها الحقيقية.
كما أنّ هناك نتائج استبيان قامت بعمله وليّة أمر لاحظت أنّ أولادها يضيعون أوقاتهم في الغُرف المغلقة وأمام شاشات الحاسوب والهاتف المحمول، فابتكرت مشروعا يقوم على تعليم الطلبة عن طريق الأنشطة الحركية واللعب، وكان اهتمامها أكثر بتعلّم اللغة العربية، وإن لم يكتمل هذا المشروع حتى كتابة هذا البحث، ولكنّ المهم هنا أن هذا الاستبيان والذي أخذت جزءا منه – بعد استئذانها – في الشكل ( 3 ) يظهر رغبة الأهل في هذا النوع من التعليم المبني على البقاء في الهواء الطلق والبعد عن التكنولوجيا كالتالي:
وكما نلاحظ، فالأهل الذين يريدون أن يتعلّم أبناؤهم وبناتهم عن طريق الرياضة والحركة كانت نسبتهم تقريبا: 53٪ وافقوا بشدة، وحوالي 23 ٪ وافقوا نوعا ما، وهي نسبة كبيرة بل وتهزّ عرش التكنولوجيا بقوة وتثبت أنّنا بحاجة إلى حلّ سريع لإنقاذ التكنولوجيا والأعمال اليدوية والحركية معا في عملية التعليم والتعلّم.
وهذه آراء الأهل في نفس الاستبيان السابق حول استعمال التكنولوجيا والرسم والفنون والألعاب الحركية والتي تظهر اختيارات الأهل وتفضيلاتهم للتعلّم كما في الشكل ( 4 ):
فكانت التفضيلات للموافقين بلا تردد في استخدام هذه المصادر في التعلّم-شكل ( 4 ) كالتالي:
التكنولوجيا : 34.8٪
الرسم والفنون : 44.4٪
الألعاب الحركية : 56.1٪
ويظهر هنا ميل الأهل إلى اللعب والمهارات الحركية والرسم والفنون أكثر من التكنولوجيا في عملية التعلّم، وربّما ترجع الأسباب هذا الاختيار إلى طغيان التكنولوجيا بشكل، ربما، يجعل الحاجة ملحة لتحقيق التوازن بينها وبين المهارات اليدوية والذي طرحته في هذا البحث.
وقد يرى البعض أن هناك مخاطر من استخدام الأنشطة اليدوية والحركية سواء في الطّقس الذي قد يضر بصحة الطلبة، أو في الأدوات المستخدمة في القصّ واللصق مثلا والتي لا تناسب بعض الفئات العمرية، أو مخاطر الخروج من المدرسة لمشاهدة بعض أنواع الحِرَف، حين نريد جعل الطلبة يتعايشون مع الصناعات والحرف الحياتية واليدوية في بيئاتهم من تطاير بعض الشرر أو شرائح النحاس والخشب وما إلى ذلك، أو من السفر خارج البلاد، ولكنني أطمئنهم أنهم لو خطّطوا جيّدا لمثل هذه الجولات واتخذوا الاحتياطات الواجبة و أشركوا طلابهم وطالباتهم في التخطيط من البداية إلى النهاية لكانت هناك فوائد جمّة من مشاهدة وتطبيق الأنشطة الحركية واليدوية في العملية التعليمية.
أعتقد أن الكثيرين الآن عزموا أمرهم على الاكتفاء بالأنشطة اليدوية والحركية في عملية التعلّم، واقتنعوا كما اقتنعتُ حين شاهدتها وقرأت عنها ولمست مدى أهميتها. ولكنّ الرحلة لم تنته بعد فهناك التكنولوجيا التي يجب أن نطلع عليها ربما في بحث لاحق، لنحكم حكما موضوعيا وعادلا في النهاية.
المصدر : موقع تعليم جديد